المصدر: الأخبار
تحت عنوان “سعر الدولار بلا سقف”، كتب محمد وهبة في جريدة الاخبار:
ثمة إجابة واحدة عن كل التساؤلات المتعلّقة بسعر الصرف: لا سقف لارتفاع سعر الدولار. فالانهيار أفسح المجال أمام عوامل أخرى وأضفى عليها أوزاناً أكبر من الأوزان التقليدية المحدّدة للسعر. أكبر الأوزان هو أن النظام لم يقتنع بعد بانهياره وإفلاسه. بمعنى أوضح، عندما تتقاطع الحاجات الأساسية للبنان مع مصالح الفاعلين المتلاعبين بالسوق في إطار سلوك الإنكار والتجاهل، تصبح التوقعات هي العامل المحدّد للسعر. هذه إحدى علامات التضخّم المفرط، وهذا ما يلوح في الأفق
في 3 تموز الماضي بلغ سعر صرف الدولار في «السوق الحرّة» أعلى مستوى له مسجلاً 9900 ليرة مقابل الدولار الواحد. بعد شهر واحد انفجرت نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت. رغم ذلك، وبشكل مفاجئ، تراجع سعر الصرف بعد عشرة أيام إلى 7000 ليرة. دامت مفاعيل هذه المفاجأة غير المحسوبة لغاية 30 تشرين الأول 2020 حين سجّل سعر الصرف 6900 ليرة. بعدها، عاد المسار إلى الوجهة المعاكسة. ففي أول كانون الأول 2020 بلغ 8000 ليرة، ثم 8600 في أول كانون الثاني 2021، وفي أول شباط بلغ 9000 ليرة وأمس كان متوسط شراء الدولار بقيمة 9600 ليرة تبعاً لموقع Lebaneselira.org. خلال أربعة أشهر زاد سعر الدولار بقيمة 2700 ليرة أو ما نسبته 39%.
ما الذي دفع سعر صرف الدولار إلى هذا الارتفاع؟
واهم من يظنّ أن هناك قدرة على تحديد أسباب هذه التقلبات والبناء عليها من أجل تحديد احتمالات حصول ارتفاع إضافي أو حتى استقرار نسبي أو انخفاض. نظرياً، يمكن رسم المسار والوجهة من دون تحديد الوتيرة والمساحة الزمنية المتوافرة. وبالاستناد إلى الإحصاءات السوقية، إن المسار العام يشي بأن وتيرة ارتفاع سعر صرف الدولار لم تتوقف بعد. فالظروف التي أحاطت بهذ الارتفاع، سواء بشكله المتسارع خلال حزيران 2020، أو على شكل تصحيحات ضمن مدى زمني ضيّق مثل فترة الأسبوعين التي تلت انفجار مرفأ بيروت، أو في النصف الثاني من تشرين الأول… نشأت بفعل عوامل غير ثابتة تتحرّك في أوقات متزامنة لكل منها وزن في تحديد سعر الصرف. هي مزيج من مجموعة عوامل أهمها: سياسية يتداخل فيها المحلي بالخارجي، نقدية – اقتصادية متّصلة بتبادلات لبنان مع الخارج والتدفقات المالية، المضاربة والتوقعات.
كل تطوّر في مكوّنات هذه العوامل، أو كل قرار يتّخذ على خلفيتها سيكون له تأثير ما. القصّة كلّها تكمن في تحديد وزن كلّ منها في التأثير على سعر الصرف. فعلى سبيل المثال، رغم انفجار مرفأ بيروت الهائل، والكارثة البشرية والمادية التي خلّفها، إلا أن سعر الصرف تراجع خلال الأسابيع التالية. ورغم أنه على مدار السنة الماضية، انخفض استيراد لبنان إلى النصف وتراجع الطلب التجاري على الدولار، إلا أن سعر الدولار ظلّ ضمن مسار تصاعدي في إطار الأشهر الأربعة الماضية. اللافت، أن هذه الأشهر الأربعة لم تشهد مناوشات حادّة كالتي حصلت سابقاً بين رئاسة الحكومة ومصرف لبنان والصرافين والقضاء… يمكن استعادة الكثير من التطورات، لكن لم يكن لأيّ منها أثر واسع على سعر الصرف مقارنة مع تدفق الدولارات إلى لبنان بعد الانفجار المشؤوم في 4 آب. ففي اجتماع مصرفي عُقد أخيراً على تطبيق «زوم» تردّد أن حجم التدفقات الآتية إلى لبنان في عام 2020 بلغت 7 مليارات دولار من بينها تحويلات مغتربين عبر المؤسّسات النظامية، ومبالغ نقدية محمولة باليد على الطائرات، وتحويلات صبّت لخدمة أهداف جمعيات المجتمع المدني والسفارات، والقليل القليل من التحويلات التجارية الأخرى. غالبية هذه التحويلات دخلت لبنان في النصف الثاني من السنة الماضية، وساعدت في تباطؤ ارتفاع سعر الصرف، لكن مفاعيلها اليوم بدأت تتقلّص.
هكذا صمَدَ سعر الصرف خلال فترة الصيف رغم كل السجالات حول ما سُمّي المبادرة الفرنسية، والتدقيق الجنائي، وتراجع احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، وتقطّع الاتصالات بشأن تشكيل الحكومة، والربط بين الانتخابات الأميركية ومصير لبنان انطلاقاً من احتمال عودة التفاوض الأميركي – الإيراني بشأن الملف النووي، فضلاً عن نوع من الهدنة بين مصرف لبنان والصرافين الذين كانوا يحصلون يومياً على 900 ألف دولار على سعر المنصّة لا يبيعون منها إلا القليل في السوق.
فترة الصمود هذه، كانت مفاعيلها كالسحر على اللبنانيين. فرغم «النق» بشأن كلفة صيانة السيارة، وأسعار المواد الغذائية (المدعومة وغير المدعومة)، وأسعار الملابس، والبطالة، والكثير سواها، إلا أنهم استعادوا «مناعتهم» بوجه الأزمات. لطالما روّجت قوى السلطة على لسان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لهذه «المناعة» التي كانت تشمل «القطيع» بكامله. سُمّيت بين العموم «تخديراً»، فكان يُقال: «تخدّرنا». ولوهلة ما، في 17 تشرين الأول 2019، ساد ظنّ بأن التخدير انتهى مفعوله. غير أنه بعد بضعة أسابيع، تبيّن أن المسألة كانت عملية «تكيّف» مرعبة في بلد ارتفعت فيه معدلات الفقر من 24% إلى 45% وانزلقت فيه أكثر من 350 ألف أسرة إلى خطّ الفقر المدقع ومن بينها 150 ألف أسرة تعاني من الفقر الغذائي، بحسب تقديرات البنك الدولي.null
فها هو سعر صرف الدولار يرتفع بثبات في ظل حالة «التكيّف مع الفقر». ليس هناك اعتراف بوجوده بعد. بدليل ما يردّد بين الناس حالياً: هناك الكثير من الودائع في المصارف. لم تخضع هذه الودائع لأي هيركات! التدقيق الجنائي سيُعيد الأموال المنهوبة. سيضع السارقين في السجن. لن يتجرأ أيٌّ «منهم» على رفع الدعم. يجب ترشيد الدعم. لقد أقرّوا الدولار الطالبي. سيسقط بعض المصارف (لا غالبيتها؟)…
لذا، ظهرت تحليلات تشير إلى أن سعر الصرف هو حالة مرتبطة بعوامل العرض والطلب: المصارف خلقت طلباً على الدولار لأنها تبحث عن دولارات طازجة من أجل تحقيق السيولة التي طلبها منها مصرف لبنان بنسبة 3% من ودائعها بالعملات الأجنبية. الصرافون توقفوا عن عرض الدولار في السوق بعد توقيف القضاء أربعة مشتبه بهم بتهمة التلاعب بسعر النقد، ما خلق طلباً على الدولار في السوق. لا بل إن الصرافين أنفسهم صدّقوا «الكذبة» وأصدروا بياناً يشير إلى أن مصرف لبنان توقف عن إمدادهم بالدولارات المدعومة على سعر المنصّة باعتبار أنهم كانوا يزوّدون السوق بهذه الدولارات بالسعر المحدّد على المنصّة.null
في الواقع، ثمة ميل بين محلّلي الأنماط الاقتصادية لتفسير هذا الارتفاع الثابت بأنه لم ينتج حصراً عن عوامل مرتبطة بالعرض والطلب، والعوامل الجيوسياسية، «ففي ظل مرحلة اللااستقرار، يُفسح المجال أمام المضاربات والتوقعات التي تأخذ وزناً أكبر في عملية التسعير». فما قام به مصرف لبنان لجهة إلزام المصارف بالحصول على سيولة خارج لبنان بنسبة 3% من ودائعها بالعملات الأجنبية (ما يعادل 3,42 مليار دولار)، ثم التزام المصارف به جزئياً لشراء الدولارات من السوق بخسارة باتت تصل إلى 75% من قيمة الشيكات، وإن كان يدلّ على وحشيتها، إلا أنه لا يفسّر هذا الارتفاع الثابت في سعر الدولار إلا جزئياً، بل يعكس مسألة أساسية: النظام بكل مكوّناته لم يقتنع بأنه أفلس وانهار. هذا التفسير، ينسحب أيضاً على سلوك الصرافين المافيوي، وعلى كل التفسيرات المرتبطة بالعرض والطلب.
سعر صرف الدولار ارتفع بثبات خلال الأشهر الأربعة الأخيرة في ظل «التكيّف مع الفقر»
والنظام بهذا المعنى، هو القوى القيادية بكل نفوذها وتحالفاتها مع أصحاب رؤوس الأموال، وأتباعها أيضاً. يراهن هؤلاء على إمكان إحياء النظام السابق «المسمى نموذجاً اقتصادياً» عبر طريق «التضخّم». هم يدركون بأن الانهيار وقع والإفلاس حصل، لكنهم يتعاملون مع هذا الواقع بغفلة مقصودة من أجل توزيع غير عادل للخسائر.
هكذا يصبح واضحاً أن التكيّف مع الفقر، لم ينتج من الاعتراف بحصول الانهيار والإفلاس، بل على العكس جاء بسبب الاستمرار في إنكار حصوله، رغم أن ذلك يفسح المجال أمام المضاربات والتوقعات للتحكّم بالسوق. المضاربات، في جزء منها، هي من عمل الصرافين، ولكنها أيضاً لم تعُد حكراً عليهم. «هناك الكثير من الشركات والأفراد الذين يقومون بأعمال المضاربة على الليرة من خلال تبادلات مختلفة بين الشيكات المصرفية والسيولة النقدية بالليرة والدولار» بحسب أحد مديري المحاسبة المرموقين. لكن المشكلة تكمن في «التوقعات». بيع السلع بأسعار تفوق الأسعار المتداولة محلياً لسعر الصرف، لا يعني بالضرورة السعي نحو الربح. فهناك من يقوم بهذا الأمر لأنه يريد خفض مخاطر البيع بالليرة مقابل الوقت اللازم لشراء الدولارات من السوق. فهذا الأمر يعني أن السوق بدأت تتوقع، مجدداً، كما حصل في تموز الماضي، أن الأسعار مرشّحة للارتفاع، وبالتالي فإن هذه التوقعات هي الأكثر وزناً في عملية تسعير الليرة. في السابق كان سعر الصرف هو يحدّد معدلات التضخّم، بينما اليوم إن التوقعات هي التي تحدّد سعر الصرف. هذه واحدة من علامات السير نحو التضخّم المفرط. سواء كان تضخماً كبيراً، أو مفرطاً، فإنه بمثابة ضريبة لإطفاء الخسائر المالية ستدفع غالبيتها الشرائح الأقلّ دخلاً والأقل ثروة.
في ظل هذا الوضع المتقلب والمعقّد، لا أحد يمكنه حسم أسباب ارتفاع سعر الصرف. يمكن الإجابة عن أيّ تساؤل بالآتي حصراً: لا سقف لسعر الدولار.