المصدر: أساس ميدبا- عماد الشدياق
يوم انطلاقة الانتفاضة في 17 تشرين 2019، أصدر مصرف لبنان تقريره الأسبوعي المعتاد، الذي أشار في حينه إلى أنّ سيولته الجاهزة بالليرة(M1) كانت 11.4 تريليون ليرة لبنانية. آخر تقرير صادر عن مصرف لبنان كان في 18 شباط الفائت، ويذكر أنّ السيولة نفسها باتت 44.7 تريليون، أي بزيادة 33.3 تريليون ليرة لبنانية أو زيادة 3 أضعاف في غضون 17 شهرًا.
في المبدأ، فإنّ هذه الأرقام تعني “بلا جميلة من أحد”، أنّنا دخلنا في نفق “التضخّم المفرض” أو الـ”Hyperinflation” منذ أشهر، وأنّ سعر صرف الدولار سيرتفع إلى أرقام كبيرة.
البعض يقول في الجانب النظري، إنّ زيادة سعر الصرف هي بحدود 3 أضعاف عن 1507، أي الزيادة نفسها التي طرأت على حجم السيولة (التسعيرة الرسمية 1507 x 4)، وإنّ السعر المنطقي المجرّد من أيّ تأثيرات أخرى، قد يكون ربّما في حدود 6000 ليرة لبنانية، وقد اعترف مصرف لبنان ولو ضمنًا أو بشكل خجول بهذا الرقم، يوم حدّد دولار المساعدات التي سيمنحها “البنك الدولي” للعائلات الأكثر فقرًا بـ6240 ليرة لبنانية.
إلاّ أنّ هذا المنطق لا يعكسه الواقع على الأرض أبدًا، خصوصًا مع استمرار سعر صرف الدولار بالصعود والصعود إلى ما شاء الله… حتى لامس في الأيام الماضية عتبة الـ11 ألفًا، في وقت تدلّ المؤشرات الآخرى إلى أنّه لن يتوقّف عند هذا الحدّ، خصوصًا إذا لم يطرأ أيّ تغييرات على العوامل الرئيسية المؤثرة بسعر الصرف، اليوم، وهي ثلاثة:
1- الأزمة الحكومية المفتوحة على التعطيل من دون ظهور أيّ أفق للحلّ، وبالتالي للإصلاح.
2- انكماش احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية بفعل دعم السلع في مقابل طبع الليرات.
3- ضيق “السوق السوداء” بفعل تقلّص العرض على الدولار من المواطنين لدى الصرافين.
في هذا الصدد، يؤكد الخبير الاقتصادي باتريك مارديني، في اتصال هاتفي مع “أساس”، أنّ معادلة احتساب سعر الصرف المفترض أعلاه “دقيقة”، لكنّها لا تصف كامل الصورة، وإنّما تنظر إلى وجه واحد منها، وهو الذي يخصّ “عامل العرض”، لكنّها لا تأخذ في الحسبان “عامل الطلب”.
فسعر صرف الليرة بحسب مارديني، “مرتبط بحجم طبع العملة (العرض)، لكنه في المقابل مرتبط أيضًا باستعداد المواطنين على حمل هذه الليرة المطبوعة (الطلب)”، ويخلص إلى أنّ الشعب اللبناني اليوم “فقد ثقته الكليّة بالليرة”، التي يستعملها لشراء السلع فقط، ولهذا يلجأ إلى حمل الدولار وادّخاره بدلًا منها، ولهذا كله، بات سعر الصرف اليوم 10 آلاف ليرة، ويعتبره مارديني “السعر الحقيقي في السوق”، كما يقدّر أن “يكون اتجاه سعر الصرف تصاعديًّا ولا حلّ إلّا باعتماد مجلس نقد Currency Board. لا حل من دونه حتى لو اضطرت السلطة إلى سجن الصرافين كلهم وشلّ المنصات”.
ومن أهم سمات “المجلس النقدي” باختصار، هي أنّه يثبّت سعر صرف بشكل ميكانيكي مقابل العملات الأجنبية أو مقابل الذهب، ذلك من خلال وقف طبع العملة في حال لم يكن هناك احتياطات كافية لتغطيتها بالكامل، وهو يفترض أيضًا سحب صلاحية طبع العملة من المصرف المركزي لصالح المجلس، الذي يعمل وفق قواعد حسابيّة فقط، ومن دون أيّ اعتبار آخر.
أما الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان فيؤكد صحة العوامل الثلاثة أعلاه، ويقول في حديثه لـ”أساس”: إنّ “هناك عوامل سياسية للأزمة لا شك، تدخل على خطّ الأزمة من وقت لآخر، لكّن المؤشرات الاقتصادية السلبية حاضرة بقوة ولا يمكن تجاهلها أبدًا”.
يسأل أبو سليمان: “إذا نظرنا إلى عمليات العرض والطلب على الدولار اليوم،
فهل زاد العرض أو انخفض؟”، ثم يجيب: “انخفض طبعًا، وهذا سيؤدي حكمًا إلى ارتفاع سعر الصرف بكل بساطة”.
أبو سليمان يعزو هذا كله أيضًا إلى “الفوضى”، وإلى غياب الحدود الدنيا في آلية “تنظيم السوق”، ولهذا فإنّ شحّ السيولة الدولارية في “السوق السوداء”، سيجعل من “آخر عملية منجزة، بمثابة المؤشر الفعلي لسعر السوق”. بمعنى آخر ومن أجل المزيد من التوضيح، إذا اشترى أيّ زبون الدولار بـ20 ألف ليرة لبنانية، صباح اليوم الثلاثاء، فإنّ هذا السعر سيكون بمثابة السعر الفعلي للدولار في هذا النهار.
ويضيف أبو سليمان إلى هذا كلّه، “العامل النفسي” لدى الناس،
وخصوصًا لدى التجار الذين باتوا “يستبِقون سعر الصرف الفعلي” خوفًا من الخسارة،
فكل التجار اليوم في حال من الضياع إزاء تسعير بضائعه، وقد يجد نفسه أمام خيارين:
إمّا التوقّف عن البيع ريثما تنجلي الأمور، وإما التسعير بأرقام تفوق سعر الصرف الحقيقي تحسّبًا من أيّ خسارة مقبلة بفعل ارتفاع السعر المفاجيء…
وكل ذلك سببه طبعًا غياب رقابة الدولة على سوق السلع، وتخلّي مصرف لبنان عن مسؤولياته”.
نسأله عن مستقبل الدولار، فيرفض إطلاق أيّ رقم،
لكنّه يشير إلى أنّ الوضع تشاؤمي، إذ “تكفي المقارنة بين سعر الدولار في السوق السوداء في آذار 2020 (2600 ليرة لبنانية)
وبين سعره بعد سنة (10500 ليرة)، لنكتشف هول الأزمة”، معتبرًا في ختام حديثه لـ”أساس”،
أنّ الكتلة النقدية المنتفخة بالليرة أيضًا ستزيد الضغط في اتجاه الدولار… والخوف اليوم من أنّ “تتخلى الناس عن التعامل بالليرة،
وذلك بعد دخولنا “التضخم المفترض”، الذي يراه “أمرًا واقعيًّا لا يمكن نكرانه”.
وكان أول من تحدّث عن هذا النوع من التضخم في لبنان،
الخبير الأميركي في التضخم وأسعار الصرف،
ستيف هانكي. فبحسب دراسة أعدّها هانكي في العام 2012،
فإنّ “التضخم المفرط” هو “داء اقتصادي ينشأ في ظل ظروف قاسية مثل الحرب،
أو سوء الإدارة السياسية، أو الانتقال إلى الاقتصاد القائم على السوق”.
إذًا، فالتضخّم المفرض يصف الزيادات السريعة والمفرطة في أسعار السلع
من خارج نطاق السيطرة عليها ضمن أطر الاقتصاد الوطني،
وغالبًا حينما يكون بمعدلات تتجاوز 50 شهريًّا،
كما يتزامن مع قيام المصرف المركزي في الدولة المأزومة بـ”طباعة مبالغ زائدة من المال”، تمامًا مثل حال مصرف لبنان.
في حينه استطاع هانكي في دراسته، أنّ يوثّق 55 حالة “تضخم مفترض” في التاريخ الحديث.
والحالات تزايدت منذ نشر الدراسة.
يكشف يانكي في حديث لمجلة Executive
قبل أيام، أنّ “لبنان يمثّل الحالة 62 في “التضخّم المفرط” عالميًّا، وذلك
بعد تسجيله منذ العام 2020 زيادة في نسبة التضخم الشهري بلغت 85.45%”.
هانكي رأى أيضًا في آخر تغريدة له تتعلّق بالأزمة اللبنانية
أنّ “ليرة ستستمر في الغرق إلى قعر المتوسط في حال لم يُعتمد خيار المجلس النقدي”.
أما السلطات اللبنانية، فـ”على عوايدها”،
في كوكب آخر. ترفض الاعتراف بأنّ المواطن اللبناني
قد كفر بعملته الوطنية، فتظنّ أنّ ثمّة متلاعبين بسعر الدولار لن يُذعنوا إلا بالقوة وبالقمع وبالملاحقة.
برغم توصيفات الخبراء والتحذيرات التي تملأ الشاشات والمواقع ليل نهار،
لم تجد السلطات اللبنانية وسيلة لتطويع الدولار،
إلّا من خلال “الملاحقة والتوقيف والسَوْق” من أجل “الاعتراف عن المحرّضين”، وذلك على حد وصف النائب العام التمييزي…
طامّتنا كبرى والآتي أعظم.