المصدر: أساس ميديا
ما ورد في التحقيق الذي نشرته صحيفة “ذا غلوب أند ميل” الكنديّة في الثاني من الشهر الجاري، يسلّط الاضواء على جانب جديد من انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020. وحمل التحقيق الذي أعدّه مارك ماكنون، المراسل الدولي الرئيسي للصحيفة في بريطانيا، عنوان: “وثائق انفجار بيروت تقود إلى عنوان في لندن تستخدمه شركات صُوَرية”. وأبرزت الصحيفة تركيز المحققين في لبنان وبريطانيا على الشركة المسجّلة في لندن، وتدعى “سافارو المحدودة Savaro Ltd”، ذات الصلة بمثلّث من رجال الأعمال الروس والسوريين. وتشير وثيقة اطّلعت عليها الصحيفة، إلى أنّ هذه الشركة كانت المالك الأخير لنيترات الأمونيوم بعد شرائها من منتجها في الجمهورية السابقة في الاتحاد السوفياتي، جورجيا، في تموز 2013.
النائبة عن حزب العمال في بريطانيا مارغريت هودج Margaret Hodge، التي ترأست لجنة برلمانية تابعة للحزب مهمتها مكافحة الفساد، أبلغت الصحيفة الكندية أنّ جهاز الأعمال التابع للحكومة البريطانية، قد فتح تحقيقًا لمعرفة هويّات المالكين الفعليين لـ”سافارو”. وقالت إنه جرى منع الشركة من تصفية أعمالها هذه السنة، بناءً على طلب من نقابة المحامين في بيروت.
وسألت “أساس” نقيب المحامين في بيروت ملحم خلف، عن مستجدات التحقيق في لندن فأجاب: “لقد جمّدوا إجراء تصفية شركة “سافارو” لمدة ستة أشهر، أي أنهم أوقفوا شطبها طوال هذه المدة”. وأضاف: “هناك تدابير إدارية وتدابير قضائية تواكب هذه القضية. بالنسبة إلى التدابير الإدارية فهي تلك المتّبعة في بريطانيا. أما بالنسبة إلى التدابير القضائية، فإنّنا نتابع الأمر مع أحد مكاتب المحاماة”.
وردًّا على سؤال حول التوقعات المتشائمة لمعرفة صاحب الشحنة القاتلة، قال: “القصة معروفة كي لا يُعرف المالك الحقيقي”.
العنوان في لندن
في ما يأتي ما ورد في تحقيق صحيفة “ذا غلوب أند ميل”: “ليس هناك من سبب ضروري لزيارة 13 شارع الأمير جون. فهو عنوان غير مشهور يبعد مسافة دقيقة سيرًا على الأقدام من محطة أوكسفورد سيركس للقطارات، في قلب المركز التجاري في لندن.
غير أنّ تحقيقَيْن تفصل بينهما خمسة أعوام، تناولا مواضيع متشعّبة مثل انفجار في لبنان، ومزاعم اتهامات بالفساد متورطة فيها شركة كندية، انتهيا إلى المبنى القرميدي المؤلف من خمسة طوابق، والقائم ما بين متجر للغولف ومدرسة تجميل، خلف المنطقة التي يقصدها السياح.
يقول خبراء إنّ التقاء التحقيقَيْن يدعو إلى الاعتقاد بأنّ هذا العنوان استخدمته “شبكة” من الشركات الصُوَرية، بعضها مرتبط بمقربين من الكرملين، وأخرى مرتبطة بنظام الرئيس السوري بشار الاسد المدعوم من موسكو. وهذه “الشبكة” أرادت إضفاء الشرعية على مظهرها، فجاءت إلى عنوان في لندن، بينما أعمالها الفعلية مضت من دون تدقيق في مناطق أخرى من العالم.
عندما انفجر مستودع نيترات الأمونيوم في آب الماضي على بعد 4500 كيلومتر في مرفأ بيروت، ترك لغزًا حول مالك الشحنة القاتلة، التي تُركت هناك لنحو سبعة أعوام قبل أن تنفجر وتقتل أكثر من 200 شخص، وتدمّر كل المناطق القريبة منها في العاصمة اللبنانية.
ويركز المحققون في لبنان وبريطانيا تحقيقاتهم على الشركة المسجّلة في لندن وتدعى “سافارو المحدودة Savaro Ltd” ذات الصلة بمثلث من رجال الأعمال الروس والسوريين، واستخدمت “13 شارع الأمير جون”، كأحد عناوينها. وتشير وثيقة اطلّعت عليها “ذا غلوب أند ميل”، أنّ الشركة كانت المالك الأخير لنيترات الأمونيوم بعد شرائها من منتجها في الجمهورية السابقة في الاتحاد السوفياتي جورجيا في تموز 2013.
عندما جرى نقل نيترات الأمونيوم على متن سفينة هالكة، والتي تعود ملكيّتها مثل ملكية “سافرو المحدودة”، كان عملًا مقصودًا من أجل تمويه هوية الملك الفعلي عبر سلسلة من الشركات الصورية. وعلى الرغم من أنّ وجهة رحلة السفينة المعلنة كانت الموزامبيق، إلّا أنها توقفت اضطراريًّا في بيروت في تشرين الثاني نوفمبر 2013 حيث بقيت الشحنة الخطرة حتى انفجارها.
ما أثار الشكوك في مالكي الـ2750 طنًّا من نيترات الأمونيوم أنّهم لم يعملوا على استرجاعها، وتقدّر قيمتها بنحو 700 ألف دولار أميركي.
ووفق الوثيقة فإنّ “سافارو المحدودة Savaro Ltd” التي ليس لديها موظفون، وسجّلت حسابات وهمية لأعوام قبل وبعد شرائها الشحنة القاتلة، كانت ملكيّتها تعود في ذلك الوقت إلى مواطنة قبرصية تدعى مارينا سيلو Marina Psyllou. وقد أبلغت الأخيرة الصحافيين أنّها ليست المالكة الحقيقية للشركة، لكنّها لم تكشف عن هوية الملك الفعلي.
هناك أدلة، لكنها مطمورة في أوراق الشركات الصورية ومستنداتها المسجّلة في بريطانيا. ففي أماكن عدة لتسجيل “سافارو” هناك اسم آخر لشركة تدعى “ألفا للتجارةAlpha Commerce”، كما يعلن عنها، وهي الجهة القانونية التي تتولى أوراق “سافارو”.
الزيارة الأولى التي قامت بها الصحيفة الكندية لمكتب شركة “ألفا” في الطابق الرابع من المبنى في شارع 13 الأمير جون، كانت في العام 2016. في ذلك الحين، كان التحقيق جاريًا حول شركة تدعى “مالتيسيرف خلف البحار Multiserv Overseas”، التي جرى إنشاؤها في العنوان نفسه. وفي حين لم تكن هناك صلة مباشرة بين “مالتيسيرف خلف البحار” و”سافارو”، أو حول نشاطاتهما المزعومة، سوى أنهما تقيمان في العنوان نفسه، إلا أنّ الخبراء رصدوا علاقة سرية تدور في هذا المكان، وأعربوا عن اعتقادهم بأنّ هذا الموقع المركزي بوسط لندن، كان على ما يبدو طريقة جيدة لإضفاء شرعية جذابة تفتقدها مثل هذه الشركات”.
وقال غراهام بارو، الخبير في الشركات الصورية ومستشار المصارف والحكومات، حول كيفية مكافحة تبييض العملات: “من الواضح أنّ هناك صلة في نشاط هذه الشركات ما يتيح للشركاء الموثوقين الذهاب إلى شركة أوجدوها. إنّ هذه الشبكات فعّالة للأفراد المجرمين والفاسدين الذين يستخدمونها”.
وعمل ألكسي ستروكوف مدير “ألفا” التي أنشأتها شبكة الشركات الصورية، بناءً على طلب محدّد في طابقَيْن تحت طابق شركة أخرى تدعى “مجموعة أوميغا Omega Group”. وأبلغ ستروكوف “ذا غلوب أند ميل” أنّه قام برحلة خاصة إلى موسكو عام 2016 لإنشاء شركة “مالتيسيرف خلف البحار”. لكنه رفض الكشف عن المالكين الفعليين لها. واستدرك قائلًا: “أخشى أنك هنا من دون مذكّرة إنذار”.
لاحقًا، نفى ستروكوف في رسالة عبر محاميه، أن يكون قد أخبر “ذا غلوب أند ميل” أنّه يتذكّر إنشاء “مالتيسيرف”، أو أنّه قام بزيارة خاصة لموسكو لهذه الغاية. وحاولت “ذا غلوب” مرارًا في الأسبوع الاخير من شهر شباط الماضي، الاتصال بـ”ألفا”، وتركت رسائل صوتية، لكنها لم تتلقَّ جوابًا.
ولاحقًا ورد اسم “مالتيسيرف” في محكمة سويدية، كونها مركز خطة رشوى مزعومة تورطت فيها شركة النقل الكندية العملاقة “بومبارديير المتحدة Bombardier Inc” ومؤسسة القطارات الروسية.
وعلى غرار “سافارو” استخدمت “مالتيسيرف” مدراء يقيمون في قبرص، أقلّه على الورق، مسؤولين عن إدارة مئات الشركات. لكنّ التحقيق الذي أجرته الصحيفة الكندية وجد أنّ “مالتيسيرف” التي جرى إيداع مستنداتها في المحكمة السويدية، قد حقّقت أرباحًا بعشرات الملايين من الدولارات كوسيط بين “بومبارديير” وبين ومؤسسة القطارات الروسية، على الرغم من أنّها لم تقم بخدمة ظاهرة. وهذه الشركة خاضعة لشركاء رئيس مؤسسة القطارات الروسية فلاديمير ياكونين، الحليف القديم للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ونفت “بومبارديير” دومًا أن تكون قد دفعت رشاوى عبر “مالتيسيرف”، لكنها لم تكشف عن نتائج التحقيق الذي أجرته الشركة في هذه العلاقة قبل أربعة أعوام.
وردًّا على أسئلة عبر البريد الالكتروني، أحال الناطق باسم “بومبارديير” الصحيفة الكندية، إلى صفحة في آخر تقرير سنوي للشركة: “بناءً على معلومات معروفة للشركة الآن، ليس هناك من دليل يشير إلى إنفاق فاسد لمصلحة مسؤول رسمي، أو أن يكون هناك أيّ تورّط لبومبارديير في أيّ نشاط إجرامي”.
وتمّت إقالة موظف شاب في شركة “بومبارديير” السويدية للنقل، التابعة للشركة الكندية الأم والتي استحوذت عليها شركة “التسوم أس أي Alstom SA of France” الفرنسية الشهر الماضي، على خلفية اتهامات من محكمة سويدية عام 2017 بتلقي رشاوى. وهناك على الأقل حكم قضائي مماثل من المتوقع أن يصدر بحق مسؤول سابق في “بومبارديير” في القضية نفسها.
وتصل آثار “سافارو” أيضًا إلى موسكو. فمديرها هو مدير شركة صوَريّة أخرى هي “إنترستاتوس المحدودة Interstatus Ltd” التي أدرجت مارينا سيلو Marina Psyllou، المواطنة القبرصية، كصاحبة الأسهم الوحيدة. لكنّ الأخيرة وقّعت أوراق تأسيس “إنترستاتوس” في نيسان 2000. وشاركت في التوقيع شاهدة تدعى فيرا تسيبوشتانوفا Fira Tsypouchtanova وعنوانها في العاصمة الروسية.
وظهر لـ”سافارو” أيضًا ارتباطات بثلاث شركات اعتادت استخدام شارع 13 الأمير جون، هي: “هيسكو للهندسة والبناء Hesco Engineering” و”ألفا للمعدات العسكريةAlfa Procurement” و”الآليات المحدودة Machinery Ltd”. وهذه الشركات تحت سيطرة ثلاثيّ من رجال الأعمال الروس والسوريين، وهم يشكلون الواجهة لنظام الأسد المدعوم من موسكو.
وسبق لوزارة الخزانة الأميركية أن فرضت عقوبات على “هيسكو للهندسة والبناء” وعلى رجال الأعمال الثلاثة: جورج حسواني والأخوَيْن عماد ومدلل خوري، وألفا للتجارة” لـ”دعمهم الحكومة السورية”. وقد جرى فرض العقوبات خصوصًا على الأخوين خوري، لأنّهما حاولا الحصول على نيترات الأمونيوم في أواخر العام 2013.
واعتادت “سافارو” والشركتان الباقيتان على تسجيل أوراقها معًا، وتقدّمها بتوقيع مارينا سيللو Marina Psyllou وبختم “إنترستاتوس المحدودة Interstatus Ltd” في اليوم نفسه. وترتبط إما بـ”ألفا للتجارة Alpha Commerce” أو بواحدة من شركات مجموعة “أوميغا” في المستندات. وفي 29 حزيران 2011 نقلت عناوينها إلى 13 شارع الأمير جون من مواقع أخرى في لندن.
وقال الإعلامي اللبناني فراس حاطوم الذي يعدّ أشرطة وثائقية إنّه “ليس صدفة أنّ الشركات الصُوَرية الثلاث تنقل عناوينها في اليوم نفسه”. وأبرزت وثائقيات حاطوم العلاقات الظاهرة بين “سافارو” وبين رجال الأعمال الروس والسوريين. ولفت إلى أنّه “كلّما وجدت ارتباطات أكثر، ظهر أنّ الشركات تعود إلى الشخص نفسه”.
ويكمن غطاء العلاقات بين “سافارو” وبين “مالتيسيرف” في مكتب “ألفا للتجارة”. ففي العام 2017، وبعدما جرى ذكر اسم ستروكوف ومؤسساته في تقرير “ذا غلوب” حول “مالتيسيرف خلف البحار Multiserv Overseas”، غادرت “ألفا للتجارة” 13 شارع الأمير جون إلى بلدة “بوترز بار Potters Bar” التي يقطنها 20 ألف شخص في شمال لندن. وجرى ذكر العنوان الجديد في البلدة وهو “Suite 2B, 175 Darkes Lane”، في أكثر من مئة تقرير حول شبهات في أنشطة مالية أعدّتها وزارة الخزانة الاميركية. وقد جرى تسريب هذه التقارير إلى الإعلام ما دعا الـ”BBC” إلى ذكر “Suite 2B” كأحد أكثر العناوين تخفّيًا في العالم”.
وبينما تطرح “ألفا للتجارة” نفسها كشركة بريطانية تنشئ شركات لأيّ أحد يقصدها، تبيّن أنّ العدد الأكبر من زبائنها هم من روسيا وسائر جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.
كما أنّ “ألفا للتجارة” نفسها على علاقة مباشرة بروسيا. إذ إنّ رقم تسجيلها جاء من “كومبانيز هاوس Companies House” الذي يستخدمه مكتب قانوني في موسكو يدعى Advokatorium، ويقول عن نفسه في موقعه الإلكتروني: إنّ “ألفا للتجارة” مركزه في المملكة المتحدة.
وقال المساعد الرسمي في المكتب فاليري كراسافتشيف، إنّ المكتب لا يمكنه الإجابة على أسئلة حول علاقاته بـ”ألفا للتجارة”، لأنها “معلومات في غاية السريّة”. كما كرّر الجواب نفسه عندما سئل عن علاقة المكتب بـ”سافارو” وسائر الشركات التي أنشأتها “ألفا للتجارة”. وأوضح أنّ ستروكوف ليس موظفًا في Advokatorium. وكلّ هذا لن يساعد من يسعى في لبنان إلى أجوبة. وقال حاطوم: “لديّ شكوك في أن تكون هناك إرادة في بريطانيا أو روسيا، أو في بلدان أخرى، لكي يعلم الشعب اللبناني الحقيقة. أخبرني من هو مالك “سافارو” و”إنترستاتوس؟ لا أحد يريد أن يعطينا هذه المعلومات”.
وقال الخبير غراهام بارو إنّ شبكة الشركات الصورية تعمل خارج 13 شارع الأمير جون. أما سائر العناوين ذات الصلة بـ”ألفا للتجارة” و”أوميغا”، فهي من أجل جعل معرفة المالكين الحقيقيين لهما ولسائر الشركات التابعة، وهذا سيكون صعبًا للغاية. أضاف: “هنا تكمن الصعوبة”. ولفت إلى أنّه عند الوصول إلى الروابط بين “سافارو” و”هيسكو للهندسة”، و”ألفا للمعدات العسكرية”، سيكون من الصعب معرفة نسق عملها، و”كم من المصادفات التي تحصل في نقطة ما”؟