“صدمة عنيفة”… خبرٌ أفجع برّي!

المصدر: الشرق الأوسط

بدأت صحيفة “الشرق الأوسط” اليوم الاربعاء، نشر حلقات من مذكرات رئيس مجلس النواب نبيه بري التي أعدّها الصحفي نبيل هيثم، وتصدر قريباً عن “دار بلال”.

واختار بري للمذكرات عنواناً: “الثقب الأسود”، وقال إن هاتين الكلمتين تختزنان تشخيصاً لما آل إليه حال لبنان، وخوفاً على وطن كان جميلاً وصار مهدداً بالتشتت والتلاشي والزوال الكارثي.

وفي هذه الحلقة الأولى، يتحدّث بري عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وعن لقائه الأخير معه في مجلس النواب يوم اغتياله في 14 شباط 2005، ويصف الاغتيال بالزلزال الذي ضرب لبنان وقلبه رأساً على عقب.

ويقول:

“عام 2005، كان الأسوأ في تاريخ لبنان، حيث ضربه الزّلزال العنيف الذي تمثّل في اغتيال الرئيس الشّهيد رفيق الحريري.

الاثنين 14 شباط 2005؛ قبل ظهر ذلك اليوم، وصل الرئيس رفيق الحريري إلى مجلس النوّاب. كان يقود سيّارته بنفسه، ترجّل منها، وأخذ يرتقي درج المجلس صعوداً…

عجقة (زحمة) نوّاب في القاعة العامّة، وإعلاميّون ممترسون في البهو الخارجي للمجلس لمواكبة الحدث؛ قانون الانتخابات النيابيّة كان مادّة النّقاش في جلسة للّجان النيابيّة المشتركة كانت محدّدة في ذلك اليوم.

الجوّ السياسيّ العام كان مكهرَباً، فتقسيمات الدوائر الانتخابيّة أرخت مناخاً داخليّاً مُربَكاً بالكامل، وأحاطتها تجاذبات سياسيّةٌ هائلةٌ، خصوصاً حول ما يتعلّق بدوائر بيروت، وكان الرئيس رفيق الحريري يحاول أن يواجه، ما اعتبرها آنذاك، تقسيمات يُراد من خلالها تطويقه.

من باحة المجلس الخارجيّة، أخذ الرئيس رفيق الحريري طريقه نحو “الكوريدور” (الممر) المؤدّي إلى جناح رئيس المجلس. وأثناء سيره في هذا “الكوريدور”، صادف أن التقى الوزير علي حسن خليل؛ كان خليل يقف على مقربة من باب القاعة العامّة، حيث تنعقد جلسة اللجان.

سلّم عليه، تمازحَا، ومن ثمّ تأبّط الرئيس رفيق الحريري ذراع الوزير خليل، ومشيا معاً إلى مكتب مدير المراسم في مجلس النوّاب علي حمد، وهو مكتب يقع في آخر “الكوريدور”، في محاذاة صالون الاستقبال الخاص برئيس المجلس، ومكثا في ذلك المكتب لنحو ثلاثة أرباع السّاعة.

في هذا اللقاء، كان القانون الانتخابي جوهر الحديث بينهما. الرئيس رفيق الحريري لم يكن مرتاحاً… كان متوجّساً ممّا سمّاها، تقسيمات انتقاميّة منه في بعض الدوائر، وتحديداً في العاصمة بيروت.

في معرض الحديث بينهما، أسرّ الرئيس الحريري للوزير خليل أنّ من الضروري جدّاً، الوصول إلى قانون انتخابيّ توافقيّ، ذلك أنّ استمرار التشنّج، لن يخدم هذه الغاية، بل إنّه سيبقي الأمور في دوّامة الأخذ والردّ اللذين لن يوصلا إلى أيّ نتيجة. وقال للوزير خليل: أنا منفتح على الحلول لبلوغ توافق، وأنا على استعداد للسّير فوراً في تسوية يتولّد عنها تفاهم على قانون الانتخابات.

كان خليل متناغماً مع الرئيس الحريري، وأشعره بأنّ توجّسه مبالغ فيه، وقال له: بالتأكيد، التفاهم هو المطلوب، ودولة الرئيس نبيه برّي يؤكّد على هذا الأمر، ويشدّد على التوافق، وهو ليس في وارد السّير في قانون يؤدّي إلى كسرِ أحد.

بدا الرئيس رفيق الحريري مرتاحاً لموقف الرئيس برّي الذي عكسه معاونه السياسي، وقال للوزير خليل: أنا مطمئنّ لموقف الرئيس برّي، وبالتأكيد أنا لا أشكّ فيه لحظة، ولذلك أنا بكلّ جِديّة أقول لك إنّني مع أيّ نقاش يؤدّي إلى التوافق على قانون، ومع أيّ مخرج يحقّق هذه الغاية فوراً، وتستطيع أن تحكي في هذا الموضوع مع الوزير سليمان فرنجيّة. (كان فرنجيّة يومذاك وزيراً للداخليّة).

فقال له الوزير خليل إنّه سيقوم بهذه المهمّة، على أن يطلعه على ما سيخلص إليه مع الوزير فرنجيّة.

انتهت الخلوة، وخرج الرئيس الحريري والوزير خليل من مكتب مدير المراسم، فأخذ خليل طريقه نحو باب القاعة العامّة، وأمّا الرئيس الحريري فدخل إلى مكتب رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، حيث مكث لوقت قصير، ومن ثمّ خرج، ليصادف مرّة ثانية، الوزير خليل الذي كان في تلك الأثناء يهمّ بالدخول إلى جلسة اللجان المشتركة في القاعة العامّة. فسارع الرئيس الحريري إلى مدّ يده نحو خليل وقال له: تعالَ نذهبْ معاً إلى القهوة. (كان يقصد مقهى “الإتوال” المواجه لمبنى البرلمان، فقد كان ينتظره هناك بعض الأصدقاء).

فردّ خليل: لا أستطيع ذلك، فأنا أريد أن أدخل إلى اجتماع اللجان.

فمازحه الحريري قائلاً: “يا محتال، بدّك تْفُوْت على الاجتماع، أو إنّك عَمْ تتهرّب لأنّك خايف تمشي معي عالقهوة حتى ما إشْمْسَك”.

فردّ خليل ضاحكاً: “لا والله، بدّي أحضر الجلسة”.

ضحكا، وتصافحا، ومضى الرئيس رفيق الحريري خارجاً من المجلس، بعدما اقترب من الوزير خليل وهمس له برسالة معبّرة إلى رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي.

كانت تلك، آخر محطّة للرئيس رفيق الحريري في مجلس النوّاب، انتقل منها إلى “الإتوال”، وهناك احتسى فنجان قهوة، ومن ثمّ غادر بعد دقائق قليلة، فكانت تلك هي الرحلة الأخيرة التي قادته إلى نقطة الزّلزال في السّان جورج:[يوم الاثنين 14 شباط؛ عيد العشّاق، حيث يكثر شراء الورد الأحمر، غير أنّ “أحمرَ” من لون آخر كان ينتظر لبنان…

كنت في المجلس النيابي كالعادة، استأذنني النّائب محمّد الصّفدي بلقاء قصير، وما إنْ دخل عليّ وبدأنا الحديث، حتى فُتح قليلاً باب مكتبي، وأطلّ علينا الرئيس رفيق الحريري، قائلاً: هل لديك جمعيّة تنمية كي لا أدخل؟

بسؤاله هذا، كان يشير إلى مصادرة صفائح زيت كانت إحدى الجمعيّات توزّعها كمساعدات في بعض مناطق بيروت، وأُثير حولها جدل سياسيّ وشعبيّ كبير آنذاك.

قلت له: ادخل، هذه القضيّة من مصلحتك.

فدخل، وتقدّم نحونا بخطوات هادئة، وسلّم علينا، وتصافحنا. كان يبتسم من كلّ قلبه، شعرُه كثيف من الخلف، ومن الأمام، مع شيب ظاهر، ولكنّه مهيب.

كنت جالساً على كرسيِّ خلف مكتبي، والصّفدي يجلس على كرسيٍّ أمام مكتبي إلى اليسار، فجلس الرئيس الحريري على الكرسي الثّاني إلى يميني، وبدأ يتحدّث عن قصّة الزّيت…

فأكملتها له وقلت: … خلص مشي الحال، لقد طلبتُ من الرئيس عمر كرامي أن يشتري الزّيت قبل أن يشتريه الحريري ويوزّعه… وهكذا كان.

لم يعلّق، بل هزّ رأسه، وابتسم…

ثم أخذنا نتحدّث في بعض الأمور، منها ما هو شخصي، ومنها ما هو عام… لقد لفتني في ذلك اليوم أنّه كان كثير الابتسام.

لم يطلْ بقاؤه لأكثر من عشر دقائق، قال بعدها: فلأتركْكَ أنت والأخ محمّد. ونهض عن كرسيّه، وسلّم، ثم تركنا وغادر.

وبعدما خرج من مكتبي، التقى بالنّائب علي حسن خليل، وأرسل لي معه رسالة شفويّة قال فيها: “قلْ لمعلمك، مهما راح… ومهما إجا… مش رح يلاقي أوفى من رفيق الحريري إِلو”.

عندما أُبلِغتُ بتلك الرسالة، تعجّبت، و”صفنت” قليلاً، وصرت أفكّر فيها، ولم أعرف لماذا كانت هذه الرسالة.

خرج محمّد الصّفدي من مكتبي، فصرت أراجع بعض الأوراق أمامي، حتى مضى نحو ثلاثة أرباع السّاعة؛ كان الجوّ هادئاً، لم يكن في حسباننا أنّ أمراً ما سيحدث، كان كلّ شيء طبيعيّاً، ولا شيء غير المعتاد، ولكن، فجأة حدث الدويّ الهائل.

كنت أتحدّث على الهاتف مع الرئيس حسين الحسيني، عندما شعرت بهواء قويّ، وعاصف، وبارتجاج باب المكتب مرّات عدّة، وغبار صدر عن الصّوت والصّدى في مجلس النوّاب، إذ سقط من سقف القاعة العامّة بعض الزجاج وتناثر الغبار، كان الدويّ كبيراً جدّاً، حتى خيّل إليّ أنّ الانفجار قرب مبنى المجلس.

قيل لي في تلك اللحظة، إنّ الرئيس رفيق الحريري ترك جلسة اللجان النيابيّة المشتركة التي كانت منعقدة في قاعة الهيئة العامّة لمجلس النوّاب، وتناول فنجان قهوة في مقهى “الإتوال” المقابل للمجلس، قبل أن يستقلّ سيّارته وتحصل الفاجعة.

صارت الأفكار تتزاحم في رأسي، تأخذني في هذا الاتّجاه وذاك… دقائق قليلة وتحين لحظة الحقيقة، ويأتيني الخبر المفجع؛ لقد استشهد رفيق الحريري…

كان خبر استشهاده صاعقاً، لوهلة شعرت بصدمة عنيفة إلى حدّ أنّها جمّدتني في مكاني، في الحقيقة مرّت لحظات لم أعد أرى أمامي، وصار تفكيري مشلولاً ومشتّتاً، ولبستني حالة لا توصف من الحزن، ثمّ وجدتُني أترحّم عليه وأردّد مرّات ومرّات؛ رحمة الله عليك يا رفيق… لا حول ولا قوّة إلّا بالله.

بصعوبة، تمالكتُ نفسي، واستجمعتُ شتات تفكيري، فتواصلت مع رئيس الجمهوريّة إميل لحّود ومع قائد الجيش العماد ميشال سليمان، وقلت ما قلته حول وجوب التنبّه، واتّخاذ الاحتياطات الأمنيّة الضروريّة والسّريعة للإمساك بالوضع، فقد انتابني خوف عظيم من انفلات الأمور.

في تلك اللحظة، أيقنت أنّ زلزالاً ضرب لبنان، وقلبه رأساً على عقب، وأدخله أتون الخطر الشّديد والمصير المجهول.

بقيت في مكتبي لبعض الوقت، ومن ثمّ انتقلت إلى مقرّ رئاسة المجلس في عين التّينة،

وسط إجراءات أمنيّة بالغة الشدّة، على عكس الطريقة التي حضرتُ فيها إلى مجلس النوّاب.

بوصولي إلى عين التّينة، لازمت مكتبي، وأقفلتُ على نفسي، وتابعت الاتّصالات في كلّ اتّجاه،

محذّراً، وداعياً إلى اليقظة والانتباه لما يُحاك للبنان واللبنانيّين، ثمّ سارعت وسط هذا الإرباك إلى كتابة بيان نعي للرئيس الشّهيد ورفاقه الذين استشهدوا معه، وقلت فيه:

باسمي وباسم المجلس النيابي اللبناني، أنعى إلى الشّعب اللبناني والأمّتين العربيّة والإسلاميّة،

استشهاد دولة الرئيس رفيق الحريري؛ النّائب، والزميل، والصديق، ورائد الإعمار، وإحدى ركائز الوفاق الوطني.

إنّ هذه العمليّة الجبانة تستهدف لبنان، في وحدته الوطنيّة، واقتصاده، ورسالته، واستقراره الأمني.

وأدعو اللبنانيّين إلى التنبّه لهذه المؤامرة التي تستهدف لبنان، من خلال هذه الجريمة المروّعة،

وإلى رصِّ الصّفوف والارتفاع إلى مستوى المسؤوليّة الوطنيّة، التي تتطلّبها هذه المرحلة الدقيقة.

الأربعاء 16 شباط 2005، كان يوم دفن الرئيس الشّهيد، وحدي من بين الرؤساء شاركت في مراسم الدّفن،

وجلست بين الرئيس أمين الجميّل وعبد الحليم خدّام، الذي كان قد أتى إليّ في عين التّينة، ونزل معي في سيارتي إلى مأتم الشّهيد، وكان معنا أيضاً عمرو موسى.

كانت الفوضى عارمة، والحشود كبيرة جدّاً وضخمة، والمشهد مهيب ومحزن…

بعد الدفّن، تولّيت شخصيّاً إجلاس الرسميّين في مقاعدهم، ومن ثمّ فتحت ممرّاً بين الحشود،

وتأبّطت كلّاً من موفد الملك السعودي الأمير سعود الفيصل، وبعض الرسميّين الآخرين وأوصلتهم إلى سيّاراتهم،

ما عدا خدّام، الذي ذهب معي في سيارتي إلى منزلي، مع ولديه جهاد وجمال، وتناولنا الغداء معاً.

ومن عين التّينة، عدنا وانتقلنا إلى قريطم قبل السّاعة الثّالثة بعد الظّهر،

حيث التقينا السيّدة نازك الحريري وأولاد الرئيس الشّهيد. وتقدّمت من أفراد العائلة بخالص عزائي بالرئيس الشّهيد،

وعبّرت عن بالغ تأثّري لغيابه، ولفَقدي صديقاً عزيزاً، وقلت إنّ جهد الجميع يجب أن ينصبّ لكشف المجرمين ومعاقبتهم.

مكثتُ في قريطم نحو ثلث ساعة، ثمّ غادرت إلى المنزل، وبعدي بقليل غادر عبد الحليم خدّام إلى دمشق؛

كان خدّام حريصاً على ألّا يلتقي بالرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي وصل إلى المطار للتعزية.

لقد شعرت بحزنٍ كبير على الرئيس رفيق الحريري. سألوني مرّة عن علاقتي به،

فقلت إنّ تاريخاً طويلاً جمعنا معاً؛ تصادقنا، وتخاصمنا، وتصالحنا، مرّات ومرّات… وباختصار،

لا أقول عن رفيق الحريري أكثر من كلمة صديق، أنا صديقه وهو صديقي،

وكان له الفضل دائماً في أيّ تشابك في الآراء كان يحصل بيني وبينه، أنّه هو كان يبادر إلى الكلام معي.

قد أكون أنا شخصيّاً قد بادرت مرّة أو مرّتين لأصالحه، إنّما هو كان المبادر دائماً إلى المصالحة.

لقد أحببت الرجل، وهذه العاطفة كانت مشتركة بيننا… وقد سألوه مرّة:

هل لديك صديق خارج السياسة؟ فقال لهم: “بلى عندي صديق اسمو نبيه برّي، لا أنا قادر عيش معو، ولا أنا قادر عيش بلاه”… وهذا صحيح.

وسألوني مرّات عديدة: من المستفيد من اغتيال الرئيس رفيق الحريري؟

وجوابي كان بديهيّاً وبكلّ وضوح: المستفيد الوحيد هو عدوّ لبنان، المستفيد الوحيد هو من يريد ضرب لبنان وتدميره.

فرفيق الحريري كان يعيش مستقبل لبنان، ويراه بكلّ وجدانه وبكلّ كيانه وبكلّ ما يملك،

فمن تكون له مصلحة في أن يغتاله، أليس عدوّ لبنان؟… إنّ اللبنانيّين يعرفون من هو عدوّهم… ألا وهو إسرائيل.

اغتيال الرئيس رفيق الحريري أدخل لبنان في وضع داخليّ في منتهى الخطورة والتعقيد،

وبلغ التأزّم السياسي حدّاً لا سابق له، أشعلته اتّهامات قاسيةٌ ومباشرة ضدّ ما سُمِّي آنذاك “النّظام الأمني اللبناني – السوري”.

وتعرّض الجسم اللبناني إلى انقسام عاموديّ عميق بين اصطفافين؛ انضوى الأوّل تحت اسم فريق “8 آذار”، والثّاني تحت اسم فريق “14 آذار”.

تمترس الفريقان في جبهتين متصادمتين، وأمضى لبنان سنوات صعبة،

في ظلّ مناكفاتهما وتناقضاتهما وصراعاتهما حول عناوين متعدّدة؛ من المحكمة الدوليّة، إلى الانسحاب السوري من لبنان،

إلى سلاح المقاومة والقرار 1559، وأيضاً حول انتخابات رئاسة الجمهوريّة ما بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحّود،

حتى استنفدا كلّ أسباب التناكف، إلى أن وصل الأمر بهذين الفريقين في السّنوات التالية،

إلى حدّ فقدانهما سبب وجودهما واستمرارهما، فأصيبا بما سمّاه الرئيس نبيه برّي “الموت السَّريريّ”،

حتى ذابا بالكامل، ولم يعد لهما وجود سوى بالاسم فقط…

قبل اغتيال الرئيس الحريري، كنّا بصدد إعداد قانون انتخابيّ جديد،

وكان التوجّه الغالب هو للعودة إلى “قانون الستّين”، مع بعض التعديلات، وكان قد باشر في إعداده وزير الداخليّة آنذاك سليمان فرنجيّة.

لم تكن العودة إلى “قانون الستّين” ميسّرة في تلك الفترة، فقد حصلت مناكفات عديدة حول تقسيم الدوائر الانتخابيّة.

وأكثر الدوائر حساسيّة، كانت دوائر بيروت على وجه الخصوص.

كان الرئيس الشّهيد رفيق الحريري يعارض تقسيم بيروت إلى دوائر تأخذ منه وتخسّره.

وكان البحث جارياً في هذا الموضوع، حتى يوم استشاده في ذلك الاثنين المشؤوم،

بعد أن شارك في جلسة اللجان النيابيّة المشتركة، التي كانت تبحث في هذا القانون.

بعد جريمة اغتيال الرئيس الشّهيد، عمّ الإرباك، وتفاقم الوضع على كلّ المستويات.

وبدا كأنّ لبنان قد فقد توازنه. استقال الرئيس عمر كرامي جرّاء الضّغط الذي شعر به،

وجاءت استقالته بعد كلمة النّائب بهيّة الحريري في جلسة عامّة لمجلس النوّاب كنت قد دعوت إلى عقدها

في ذلك الوقت لمناقشة جريمة اغتيال الرئيس الشّهيد وتداعياتها.

كانت تلك الجلسة على جولتين نهاريّة ومسائيّة؛ خيّمت عليها أجواء عاصفة وشديدة التوتّر.

في جولة النّهار قدّم كثير من النوّاب مداخلات ركّزت كلّها على إدانة جريمة الاغتيال،

وقد رفعتها عند السّاعة الثّانية بعد الظّهر، على أن تُستأنف في السّاعة السّادسة مساء.

خلال فترة الاستراحة بين الجولتين، حضر الرئيس عمر كرامي بعد الظّهر، إلى مكتبي في المجلس،

وتبادلنا الحديث حول الوضع المستجدّ، وما يجب أن نقوم به، ولم يقل لي إنّه عازم على تقديم استقالته،

كما أنّه لم يوحِ أمامي بأنّه في هذا الوارد، ولم يأتِ على ذكر الاستقالة لا من قريب ولا من بعيد.

في السّاعة السّادسة من مساء ذلك اليوم، استؤنفت الجلسة وسط أجواء التشنّج ذاتها،

فأعطيت الكلمة مباشرة إلى النّائب بهيّة الحريري، التي ما إنْ أنهت كلمتها، حتى فوجئتُ بعدها بالرئيس عمر كرامي وهو يعلن استقالته.

أذهلني ما سمعته من الرئيس كرامي، ووجدتني أنتفض في مكاني، وأتوجّه إليه قائلاً: لا… يا دولة الرئيس… ما بيصير هيك؟!!

فساد هرج ومرج داخل القاعة العامّة، وعلا صراخ وهتاف نوّاب “تيّار المستقبل”، ومن ثمّ رفعتُ الجلسة.

بعد استقالة الرئيس كرامي، صرنا أمام وضع أكثر إرباكاً، فدخلنا في مشاورات سياسيّة مكثفة سعياً لاحتواء الموقف،

دعا على أثرها الرئيس إميل لحّود إلى الاستشارات النيابيّة الملزمة، فعادت الأكثريّة وسمّت الرئيس كرامي، وتمّ تكليفه تشكيل الحكومة.

إلّا أنّ هذا التكليف لم يدُم طويلاً، وتعثّر لتعذّر التوافق على تشكيلة حكوميّة،

فعاد الرئيس كرامي واعتذر عن عدم تأليف الحكومة، فسُمّي الرئيس نجيب ميقاتي رئيساً لحكومة انتقاليّة،

محدّدة مهمّتها حصراً بالإشراف على إجراء الانتخابات النيابيّة.

على توالي الأيام، صار الشّارع يغلي احتقاناً وتأزّماً، وتعمّق الانقسام بشكل خطير،

بعد التجمّعَين الشّعبيَّين، اللذين احتشدا؛ في ساحة رياض الصّلح لفريق “8 آذار”، وفي ساحة الشّهداء لفريق “14 آذار”.

ومن تلك اللحظة، دخل البلد في صراع السّاحات والشّعارات والمواقف الهجوميّة المتبادلة بين الفريقين،

ما وضع لبنان على فوّهة بركان سياسيّ بكلّ معنى الكلمة، حتى كاد يفلت من أيدي الجميع”.

Exit mobile version