المصدر: سبوت شوت
بدأت صحيفة “الشرق الأوسط” أمس الاربعاء، نشر حلقات من مذكرات رئيس مجلس النواب نبيه بري التي أعدّها الصحفي نبيل هيثم، وتصدر قريباً عن “دار بلال”.
وفي هذه الحلقة من مذكرات بري، يروي تفاصيل الاتفاقات التي مهدت لانتخاب الرئيس ميشال عون رئيساً للجمهورية، بعد فراغ في مقعد الرئاسة استمر سنتين ونصف السنة.
ويتحدث برّي في مذكراته، وهي بعنوان “الثقب الأسود”، عن تراجع الرئيس سعد الحريري عن دعم النائب السابق سليمان فرنجية لمصلحة عون، ويقول إن “تفاهم معراب” بين “القوات اللبنانية” و”الوطني الحر” وإعلان الدكتور سمير جعجع دعم عون كلن لقطع الطريق على فرنجية.
يبدأ برّي الحديث من مهرجان لحركة “أمل” في صور في 31 آب 2016، قبل شهرين من انتخاب عون:
“كان هذا المهرجان فرصة لي لوضع النّقاط على حروف العبث السياسي الذي كان يمارسه بعض الأطراف حيال تعطيل الحكومة ومجلس النوّاب. وقلت يومها، أسمع كلاماً من هنا وهناك عن العبور إلى الدولة، صحيح أنّ هذا كلام جميل، لكنّ العبور إلى الدولة يستدعي وقف الدلع السياسي واعتقاد كلّ طرف منّا من دون استثناء، أنّه يملك القرار الوطني أو (الفيتو) على القرار الوطني.
وأقول لكم أيضاً، أوقفوا تعطيل المؤسّسات وتعالوا نوقف العبث السياسي ولنلتزم بالدستور، وإنّني بكلّ صراحة أقول لكم إنّني بمواجهة القوى التي تواصل الانقلاب على مختلف العناوين السياسيّة أقول إنّنا، إذا اقتضى الأمر، سنواجه كلّ ذلك بقوّة النّاس ونقول للجميع اتّعظوا مما يدور حولنا.
ذلك اليوم، لا يُمحى من ذاكرتي؛ فقبل بدء المهرجان، كنت أواكب التحضيرات له، كلّ شيء أصبح جاهزاً، وحضّرت نفسي للتوجّه إلى ساحة مهرجان الإمام موسى الصّدر في صور. فجأة يرنّ الهاتف، وأُبلغتُ فيه بأنّ عبوة ناسفة انفجرت في منطقة زحلة.
أقلقني الخبر، وذهبت بكلّ حواسي إلى منطقة الانفجار، إلى أن جاءني الخبر اليقين، باستهداف حافلة تقلّ مناصرين للحركة، كان أسفي شديداً على المرأة الشّهيدة التي سقطت، وكذلك على الجرحى، إنّها خسارة بلا شك. لقد كانت رسالة دمويّة.
ومن على منبر الإمام في صور، كدتُ لا أتمالك نفسي أمام الجموع التي احتشدت في ساحة المهرجان، وكذلك تلك التي فاضت بها الشّوارع المؤدّية إلى المكان، فوجدتني في بداية الخطاب أتوجّه إلى مئات الألوف المحتشدين وأقول لهم لو فيي حَوّل الاحتفال لصلاة شكر لله ولكم كان أحسن شي.
لقد كان مشهد الناس أمامي مؤثراً، واللهِ لم أستطع أن أعبّر عن مدى تأثّري أمام هؤلاء الشباب الذين تحدّوا الرسالة المتفجّرة وحضروا من كلّ لبنان.
تلك الجموع، احتوت تلك الرسالة، ولم ينجح المفجِّرون في أن ينغِّصوا المهرجان. وألقيت خطابي وغادرت وفي نفسي تقدير للناس ولمنظّمي المهرجان.
ولكن لم أكد أرتاح حتى أطلّ بعض صيّادي المشاكل برؤوسهم كما هي عادتهم عند كلّ حدث. كانوا يحاولون أن يُشوّهوا مضمون الخطاب، ويحرفوه عن جوهره وهدفه ويأخذوه على غير مقصده!.
فقد أشرتُ في خطابي إلى الدلع السياسي، فحملوا كلامي هذا كقميص عثمان وصاروا يُسقطون هذا التوصيف على هذا وذاك من القوى السياسيّة، مع أنّ كلامي في هذا الأمر كان شديد الوضوح، فقد قلت حرفيّاً (على المستوى الوطني أؤكّد أنّ العبور إلى الدولة يستدعي وقف الدلع السياسي واعتقاد كلّ طرف منّا من دون استثناء أنّه يملك القرار الوطني أو «الفيتو» على القرار الوطني).
لم أكن أقصد في كلامي هذا أحداً معيّناً أو فريقاً معيّناً. يومها رددت على المشوشّين وقلت لهم بعد شوي بدّي علّمكم اللغة العربيّة… ألم أقلّ كلّ طرف منّا؟ ألم أقل لنوقف العبث السياسي ولنلتزم الدستور؟ فما معنى ذلك؟ أليس معناه واضحاً وصريحاً ومباشراً بأنّني قد عممت على الجميع ولم أستثنِ أحداً، ولم أخصّ أحداً بعينه؟ّ!.
ثمّ أخذوا يقولون إنني لوّحتُ بالشّارع، وأنا قلت حرفيّاً في الخطاب إنّني بمواجهة القوى التي تواصل الانقلاب على مختلف العناوين السياسيّة، إذا اقتضى الأمر، سنواجه كلّ ذلك بقوّة النّاس ونقول للجميع اتّعظوا مما يدور حولنا. فعندما قلت بقوّة النّاس يعني كلّ النّاس، ونحن مع كلّ النّاس. أنا لم أهدّد أبداً بالشّارع، ولم ألوّح أبداً بالنّزول إلى الشّارع، مع أنّ كلّ العالم يعلمون أنّنا خبراء في ذلك.
ما أثار الاستهجان والاستغراب وكلّ علامات التعجب لدي هي محاولة اللعب على الكلام وتصويري وكأنّني أحاول أن أضع شروطاً مسبقة على تشكيل الحكومة.
أمام هذا القول، حرصت على أن أظهّر لهم أنّ الفرق كبير بين (تشكيل) الحكومة، و(تشكُّل) الحكومة؛ فتشكّل الحكومة هو التفاهم الذي لم يكن متوافراً آنذاك، وعندما نقول بتشكّل الحكومة، فمعنى ذلك أنّنا ندعو إلى التفاهم. ومن هنا جاء تأكيدي عليهم آنذاك بأنّه صار من الضروري أن يجلس الجميع على كرسي الاعتراف، لكي نعترف أنّنا تأخّرنا كثيراً، وأنّ الوقت يسبقنا وقد أضعنا الكثير منه، وخصوصاً أنّه لم يحصل في تاريخ لبنان كلّه أن انتخب رئيس للجمهوريّة من دون تفاهم على تعبيد الطريق أمامه؟ والأمر نفسه بالنّسبة إلى رئيس الحكومة.
أذكر أنّني قد سِقْتُ أمامهم مثالاً، وقلت لهم، لنفرض أن انتخب رئيس جمهوريّة هكذا من دون اتفاق مسبق، وتمّ تكليف شخص لتشكيل الحكومة، أيضاً من دون اتفاق مسبق على كيفيّة تأليف الحكومة، فكأنّنا في هذه الحالة، لم نفعل شيئاً، بل نعقّد الأمور أكثر، ويستعصي معها الحلّ وإيجاد المخرج أكثر.
وأكثر من ذلك، جزمت أمامهم، أنّ رئيس الحكومة في هذا الوضع، يُكلَّف، لكنّه لن يستطيع أن يؤلّف الحكومة، ومعنى ذلك أنّ رئيس الجمهوريّة سيتفرمل في بداية عهده، والدولة تنحدر نزولاً أكثر. وثمّة حالات مشابهة، على ما جرى أيّام تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، حيث مررنا بتجربة واضحة مع هذه الحكومة التي كانت من لون واحد ومن فريق واحد، ومع ذلك بقي ميقاتي أشهراً ولم يتمكّن من تأليف الحكومة إلّا بعدما بادرتُ أنا شخصيّاً وتخلّيت عن وزير، فكيف سيكون الحال مع حكومة سيدخل إليها كلّ الأطراف؟.
ولا يفوتني هنا أن أذكّر، أنّنا في تلك الفترة، لم نكن غائبين أو غافلين عمّا كان يجري بين بعض الأطراف، خصوصاً بين (تيّار المستقبل) و(التيّار الوطني الحرّ) اللذين رسما خريطة تعاون مشتركة بينهما تفاهموا فيها على (التشارك) في الحكومة، واختاروا الحقائب التي يريدونها وتوزّعوها فيما بينهم، هذه لك وهذه لي!.
في تلك الفترة، كان الاستحقاق الرئاسي أشبه بالدوّامة، وعلى باب تشرين الأوّل 2016، كان الرئيس سعد الحريري لا يزال ملتزماً بترشيح النائب سليمان فرنجيّة ربطاً بالاتفاق الذي تمّ بينهما في باريس، ولو أنّ جلسة انتخاب رئيس الجمهوريّة عُقدت في ذلك الوقت، لكان النائب فرنجيّة رئيساً للجمهوريّة؛ كونه كان يحظى بتأييد ما يزيد على سبعين نائباً، وكتلة التنمية والتحرير تبنّت ترشيحه علناً آنذاك. لكنّ هذه الجلسة لم تنعقد بالنّظر إلى عدم نضوج توافق حولها.
في هذه الأجواء، فاجأ سمير جعجع الجميع بتبنّيه ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة، كان واضحاً في هذا التبنّي أنّه لقطع الطريق أمام فرنجيّة. كان الرّهان آنذاك هو على أن يبقى الرئيس سعد الحريري متمسّكاً بترشيح فرنجيّة. وأذكر أنّني في تلك الفترة، التقيت الحريري وقلت له أنا أدعمك، لكن لن أكون ملكيّاً أكثر من الملك، هذه معركتك، وعليك أن تتحمّل المسؤولية، وأنا مستعدّ لأن أساعدك إنْ بقيت ماضياً في دعم النائب فرنجيّة.
لم يخفِ عليّ الحريري آنذاك أنّه يشعر بالإرباك ويتعرّض للضّغوط، فأكّدت عليه أن يصمد.
إلّا أنّ الأمر سرعان ما تبدّل، وحصل ما كنت قد توقّعته من البداية، بحيث بدأ الحريري يسلك طريق التراجع عن ترشيح فرنجيّة والتمهيد لترشيح العماد ميشال عون.
أودّ أن أشير هنا، إلى أنّ الحريري لم يمهّد الأرض سابقاً لمبادرته ترشيح فرنجيّة، بمعنى أنّه لم يحصّنها كما يجب. كما أنّه لم يمهّد كما يجب، لا داخل كتلته النيابيّة ولا خارجها، لخطوة التراجع عن ترشيح فرنجيّة.
أولى خطوات التراجع تجلّت في اللقاء المطوّل الذي عقده الحريري مع العماد عون في الرّابية أواخر أيلول 2016. يومها، وقبل أن ينتقل الحريري إلى الرّابية للقاء العماد عون، التقى النائب فرنجيّة.
أذكر أنّ فرنجيّة تواصل معي في ذلك الوقت، ولم يكن مرتاحاً، وأطلعني على بعض ما دار بينه وبين الحريري، فقلت له إنّني لست مستغرباً؛ لأنّني كنت أتوقّع ذلك.
أبلغني فرنجيّة بأنّه قال للحريري خلال لقائهما: كنّا قد اتفقنا معاً على أمرين؛
الأوّل، أنّك إذا أردت التراجع عن ترشيحي، فستفعل ذلك بالتنسيق معي ومع الرئيس نبيه برّي والنائب وليد جنبلاط.
وما دمت ستتراجع، فلماذا لا نعقد لقاءً اليوم أنا وأنت والرئيس برّي وجنبلاط لحسم الأمر.
والأمر الثّاني هو أنّنا اتفقنا على أنّك إنْ قرّرت أن تتراجع عن دعمي، فلا تدعم ترشيح عون، بل أن نذهب إلى خيار ثالث.
فردّ الحريري على فرنجيّة وقال له: أنا مستعدّ لأن أنتخبك غداً،
لكن أنت تعرف أنّ الرئيس نبيه برّي لم يؤمّن موافقة حلفائكما على انتخابك،
ولا نستطيع الاستمرار في هذا الأمر، وأنا حاليّاً لست في صدد إعلان دعم ميشال عون، بل إن ما أقوم به هو مجرّد تشاور للخروج من حال المراوحة.
وأودّ أن أشير هنا مجدّداً إلى أنّ حزب الله سبق أن حسم موقفه وأيّد علناً العماد عون كمرشّح نهائي،
من الأساس لم يكن موقفنا واحداً فيما خصّ الاستحقاق الرئاسي؛ فالحزب له مرشّحه وأنا لي مرشّحي.
بات محسوماً بعد لقاء الرّابية بين العماد ميشال عون والرئيس سعد الحريري آنذاك،
أنّ الحريري حسم قراره بتبنّي ترشيح العماد عون، لكنّه قرّر تأجيل الإعلان عن ذلك،
إلى ما بعد عودته من جولة خارجيّة تقوده إلى المملكة العربيّة السعودية وموسكو وتركيا ودولة الإمارات العربيّة المتّحدة.
وهذا ما علمته من أجواء اللقاء بين الحريري وعون، التي نقلها إلى الحاج حسين خليل، بحسب ما تبلغها من جبران باسيل.
وقال لي حسين خليل، إنّ المداولات بين الحريري وعون كانت إيجابيّة جدّاً بين الطّرفين، وهناك تقارب كبير في المواقف،
وتمّ التوافق بينهما على أن يعلن الحريري دعمه عون، كما اتفقا على أنّ إعلان تأييد الترشيح هذا، لن يتمّ من الرّابية، بل سيتولّاه الحريري من بيت الوسط.
لكنّني فوجئت في ذلك الوقت، بتسريبات متتالية من جانب “التيّار الوطني الحرّ” ووسائل إعلامه،
مهّدت لحملة مركزة ضدّي، وصارت تروّج أنّ نبيه برّي يعمل ضدّ الدستور،
وأنّه أمام شبه الإجماع على عون، هو وحده لا يزال رافضاً له ومانعاً لانتخابه.
فلم أترك هذا الكلام يمرّ، فرددت على المتحاملين عليّ وقلت لهم،
إنّ الوقت ليس للمراهقة السياسيّة، ولمن يتّهموني بالعمل ضدّ الدستور، أقول لهم، أنتم تعلمون علم اليقين،
أنّني أنا نبيه بري الأكثر حرصاً على الدستور، والأكثر التزاماً بأحكامه. وأتحدّاكم أن تثبتوا مصداقيّتهم،
لقد مارسنا ونمارس الالتزام بأحكام الدستور قولاً وفعلاً، وكتلتي النيابيّة هي الوحيدة التي لم يتغيّب أعضاؤها
عن حضور جلسات انتخاب رئيس الجمهوريّة. فإذا كنتم حريصين على الدستور أكثر منّي، تفضّلوا انزلوا إلى المجلس لننتخب رئيساً بحسب الدستور.
بعد لقاء الرابية بين الحريري وعون وما اتفقا عليه،
صار الكلّ في البلد يتصرّفون على أساس أنّ العماد عون صار رئيساً للجمهوريّة، ولكن مع وقف التنفيذ، وأنّ المسألة صارت مسألة وقت قصير.
أمّا أنا شخصيّاً، فكانت الصّورة واضحة أمامي، وحاولت في الفترة الفاصلة عن موعد انتخاب الرئيس،
أن أقود الموقف في اتّجاه إيجاد نوع من التفاهم المسبق على ما بعد الرئاسة،
وفق السلّة التي طرحتها واعتبرتها الممرّ الإلزامي والضروري لاستقرار الوضع السياسي والحفاظ على المؤسّسات الدستوريّة،
وللحلّ المتكامل بدءاً بانتخاب رئيس الجمهوريّة.
يومها، أعلنت أنّ الأوان لم يفت بعد، وهناك خريطة طريق ينبغي سلوكها للوصول إلى الاستحقاق الرئاسي المطلوب؛
إذ من شأن هذه الخريطة أن تزيل من طريق العهد الرئاسي المقبل الكثير من المطبّات وتجنّبه السّقوط في تلك المطبّات، وترتكز على الآتي:
أوّلاً، عودة وزيري (التيّار الوطني الحرّ) إلى الحكومة وحضور جلساتها، التي قاطعوها من دون مبرّرات مقنعة.
ثانياً، عودة نوّاب التيّار إلى مجلس النوّاب والمشاركة في جلساته، وعلى وجه التحديد في جلسة المجلس الأولى
ضمن العقد العادي، الذي يبدأ في 18 تشرين الأول 2016. فبهذا الحضور،
يتراجع التيّار عن اتّهاماته للمجلس النيابي بأنه غير شرعي، ويعترف العماد ميشال عون بشرعيّة المجلس الذي سينتخبه.
ثالثاً، إعادة إحياء طاولة الحوار، التي تضمن مشاركة الجميع في إنتاج سلّة الحلّ الرئاسي،
وتضمن الاتفاق على مرحلة ما بعد الرئاسة، من الحكومة إلى قانون الانتخابات النيابيّة، بمعزلٍ عن المرشّح.
ومع ذلك، ظلّ الهرب مستمرّاً من (سلّة التفاهم). وبقوا مركّزين على هدف آخر ووحيد. أذكر في تلك الفترة،
أنّ وزير الطاقة آنذاك جبران باسيل، حضر بزيارة إلى عين التينة تحت العنوان النّفطي،
وجرى حديث مطوّل بيني وبينه، وتوافقنا على كثير من النّقاط حول الملفّ النّفطي، وفي نهاية الحديث قام ليودّعني،
ومن ثمّ توجّه صوب باب مكتبي ليغادر، لكنّه ما لبث أن توقّف عند الباب والتفت إلى وقال لي:
ما دمنا قد اتفقنا على ملفّ النّفط، فماذا عن الملفّ الآخر، والذي لا يقلّ أهميّة؟
فهمت مقصده، لكنّني تعمّدت ألّا أظهر ذلك، فسألته مرفقاً كلامي بابتسامة معبّرة: عن أي ملفّ تتكلّم؟
فقال: عن رئاسة الجمهوريّة.
فقلت: كلّو بوقتو.
ظنّ باسيل أنّني أمزح. فعاد وكرّر سؤاله وقال لي: جديّاً، بالنّسبة إلى موضوع رئاسة الجمهورية، شو رأيك؟
فقلت له: ما على أساس إنّو المجلس النيابي غير شرعي وغير دستوري، ورئيسه غير شرعي وغير دستوري؟!
حاول باسيل أن يبرّر ويوحي بأنّ هذا الكلام هو كلام سياسي.
فقلت: أنا لا أفهمه كلاماً سياسياً، بل أفهمه كلاماً مهيناً للمجلس النيابي وكرامته،
وبالتأكيد هو كلام مهين لرئيس المجلس وكرامته، وفي أي حال، وكما قلت لك كلّ شي بوقتو حلو.
وغادر باسيل، دون أن يأخذ منّي شيئاً يرضيه.
دخلنا في الأسبوع الثّاني من تشرين الأول 2016، وأمام السلبيّة التي تمّ التعاطي فيها مع مطلب سلّة التفاهم المسبق،
قرّرت أن أبتعد عن الصّورة وأتفرّج إلى حين إعلان الحريري موقفه النّهائي من ترشيح عون.
في ذلك الوقت، كان البلد كلّه يضجّ، باللقاءات والمحادثات المكثّفة التي كانت تجري على قدم وساق بين
(تيّار المستقبل) و(التيّار الوطني الحرّ)، والتي أسفرت عمّا سُمّيت آنذاك (تفاهمات) بينهما، مرتبطة بما سُمّيت لاحقاً بـ(التسوية الرئاسيّة)،
والتي شملت رئاسة الجمهوريّة والحكومة والحقائب الوزاريّة وأموراً أخرى. وفوق ذلك،
أرادوا لكلّ الآخرين أن يلتزموا بها ويوقّعوا لهم على بياض.
بعد أيّام قليلة، زار الحريري النائب فرنجيّة واعتذر منه عن عدم الاستمرار في تأييده،
رادّاً السّبب إلى أنّه لم يتمكّن من تحقيق إجماع حول ترشيحه، ومن ثمّ جمع الحريري كتلته، وأبلغهم بقراره دعم ترشيح العماد عون.
وبعد ذلك مباشرة طلب الحريري موعداً للقائي، فأرسلت له رسالة من سطرين،
قلت له فيها إذا كنت تريد أن تأتي لتبلغني بأنّك سترشّح العماد عون، فما من داع للقائنا، (شوف) علي (حسن خليل) وقلّ له ما تشاء.
وبالفعل، تواصل الحريري مع علي خليل، والتقيا، وأبلغه بأنّه سيعلن دعم ترشيح العماد ميشال عون،
فأبلغه علي خليل بأنّ لكتلة التنمية والتحرير موقفها وليست ملزمة بالتصويت لعون.
وتبع ذلك بعد وقت قصير، إعلان الحريري رسميّاً تبنّيه ترشيح عون.
بعدما تبنّى الحريري ترشيحه رسميّاً، زارني الجنرال عون في عين التينة، وعقدنا لقاءً وديّاً،
وكان حديثنا في منتهى الصّراحة، وقد تمسّكت بموقفي بأنّ أسلم طريقة لإنجاز الاستحقاق الرئاسي
هو سلّة التفاهم التي طرحتها، والتي من شأنها أن تفتح الطريق أمام العهد وتزيل المطبّات من أمامه.
وعندما سألني عن موقفي من جلسة انتخاب رئيس الجمهورية التي حدّدتها في 31 تشرين الأول 2016،
قلت له: أنت تعرف، يا دولة الرئيس، مقدار مودّتي لك واحترامي لشخصك، لكنّني أقول لك بكلّ صراحة إنّني لن أصوّت لك.
فسألني: لماذا، فقد عرفت أنّ علاقتكم بجبران صارت منيحة؟
فقلت له: أنا لن أنتخبك، لالتزامي بغيرك.
فقال: أنا أتفهّم موقفك.
فقلت: في أي حال، أنا أؤكّد لك، يا دولة الرئيس، أنّ تعطيل نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهوريّة في جيبي،
لكنّني لن أقدم على اللعب بالنّصاب أبداً.
هنا، بدا عون مرتاحاً، فقلت له: أنا، يا دولة الرئيس، لن أفعل كما فعل غيري، بل إنني سأنزل إلى مجلس النوّاب في جلسة 31 تشرين الأول
، ولكنّني لن أنتخبك.
كان ردّ فعل العماد عون متفهّماً لما قلته، فعقّب وقال لي: أنا أحترم رأيك وأحترم قرارك.
كان لقاؤنا طبيعيّاً جدّاً. وفي نهايته عبّر الرئيس عون أمام الإعلام، وبطريقة دمثة،
عن اختلافنا في وجهات النّظر، وأنا أيضاً عبّرت عن ذلك بقولي: في هذا اللقاء بين دولة الرئيس عون وبيني،
سمع منّي وسمعت منه… والاختلاف في الرأي لا يفسد للودّ قضية.
وقبل جلسة الانتخاب بيومين ترأست اجتماعاً لكتلة التنمية والتحرير، وأصدرت بياناً كان انعكاساً واضحاً لكلّ ما سبق وأكّدته للعماد عون، عندما زارني.
فقد أعلنت الكتلة ما حرفيّته: بعد مناقشة الاستحقاق الرئاسي، وانسجاماً مع موقفها الدائم بتلبية الدعوات
لجلسات انتخاب رئيس الجمهوريّة، أكّدت كتلة التنمية والتحرير حرصها على تأمين النّصاب للجلسة المقرّرة
الإثنين 31 تشرين الأول 2016. كما أكّدت على ترشيحها لمعالي النائب سليمان فرنجيّة.
وقبل يوم واحد من انعقاد جلسة 31 تشرين الأول، قرّ رأينا بالتوافق مع النائب فرنجيّة على أن نصوّت بورقة بيضاء،
دون أن نصوّت للنائب سليمان فرنجيّة. فقد اتّخذنا هذا القرار من خلفيّة التسليم المسبق بنتائج الانتخاب،
ولكي لا يُعتبر إبقاؤنا على ترشيح النائب فرنجيّة تحدّياً، بل على العكس أردنا من هذه الخطوة إرسال رسالة إيجابيّة.
في ذلك اليوم، جاء من يسألني، هل ستشارك في الجلسة؟
فقلت: بالتأكيد، جلسة الانتخاب في 31 تشرين الأول قائمة في موعدها وليس ما يُهدّد انعقادها،
والنّصاب العددي للانعقاد والانتخاب متوافر، وإن انعقدت فعون رئيس حتمي؛ كونه يحظى بأكثريّة واضحة،
وحتى ولو لم تكن الأكثريّة التي يريدها كبيرة، فيها شيء من التعزيز المعنوي لانتخابه.
وجاء يوم الإثنين 31 تشرين الأول 2016، لينتهي بذلك وضع شاذّ دام لأكثر من سنتين ونصف السنة من الفراغ
في سدّة الرئاسة الأولى، وتمّ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهوريّة.
في جلسة الانتخاب تلك، ألقيت خطاباً، سمّيته آنذاك خطاب مدّ اليد بكلّ صدق ومودّة ورغبة في التعاون،
إلى رئيس الجمهوريّة. وقلت: الآن، بعدما أصبح لدينا الآن رئيس للجمهوريّة لا بدّ أن ندخل في مرحلة
عمل فعليّة عنوانها الجهاد الأكبر، الذي ينبغي أن يحفّز كلّ القوى السياسيّة، وفي المقدّمة رئيس الجمهوريّة
على التعاون من أجل إخراج البلد من الأزمات الرّاهنة.
وأعلنت أنّني سأكون أوّل المتضامنين مع رئيس الجمهوريّة لإطلاق عجلة الدولة من جديد،
والأساس هو قانون الانتخابات النيابيّة الذي يشكّل عنصر الإنقاذ للدولة ويصحّح التمثيل والتوازن لكلّ المكوّنات”.
ويتحدث الرئيس نبيه بري عن الحكومة الأولى في عهد الرئيس ميشال عون برئاسة الرئيس سعد الحريري ويصفها بـ”حكومة الاشتباكات والمتاريس”.
يقول “في كلّ الحكومات التي تشكّلت منذ عام 1992 عيّنت نفسي رافعة لها، ورافداً لها عبر مجلس النوّاب،
لكي تكون في موقع المنتج، والموفّر للعلاجات لكلّ مكامن الخلل التي تعتري الدولة وإداراتها،
ولطالما كنت أتعمّد أن أضخّ بعض المعنويّات لتلك الحكومات بهدف الحثّ على العمل والإنجاز،
ولطالما ردّدت ممنوع على أحد أن يفشّل الحكومة، وممنوع على الحكومة أن تفشل، المطلوب منها فقط أن تعمل،
فإنْ أخطأت فلها أجرٌ واحد وإنْ أصابت فلها أجران.
كان هذا توجّهي مع حكومة الرئيس الحريري بداية عهد الرئيس عون، ولكنّني كنت كمن يصرخ في صحراء لا يسمعه أحد.
إذ وخلال فترة قصيرة، فوجئنا بأنّ التفاهمات المعقودة بين (التيّار الوطني الحرّ) و(تيّار المستقبل)
قبل انتخابات رئاسة الجمهوريّة، يُراد لها أن تكون كلمتها هي العليا وفوق كلّ الاعتبارات، وتُلزم كلّ الأخرين بالانصياع لكلّ ما اتفقا عليه.
كان سبب المشكلة آنذاك، هو أنّ (التيّار الوطني الحرّ) و(تيّار المستقبل)
وظّفا أداءهما لخدمة تلك التفاهمات قبل أي أمر آخر، وسعيا إلى ترجمة تفاهماتهما في مراحل عديدة،
وهو الأمر الذي ولّد في التالي من الأيّام مناكفات قاسية وصعبة ومتتالية:
دارت الأولى، في مرحلة التعيينات الإداريّة، وتجاوز آليّة التعيين التي كانت متّبعة.
ودارت الثّانية، في مرحلة الامتناع عن تعيين هيئة الإشراف على الانتخابات، وكذلك الامتناع، وخلافاً للدستور،
عن إجراء انتخابات فرعيّة لملء مقعدَين نيابيين؛ شغر الأوّل في كسروان جبيل، بانتخاب الرئيس عون،
وشغر الثّاني في طرابلس، باستقالة النائب روبير فاضل.
في تلك الفترة رفعنا الصّوت أكثر من مرّة، لكي يتجاوزوا هذا الخرق الدستوري، ولنجنّبهم الوقوع فيه، فلم نلقَ آذاناً صاغية.
ودارت الثّالثة، في مرحلة بواخر الكهرباء والإصرار على عدم بناء معامل كهرباء على البرّ،
وما أحاط تلك البواخر من حديث جدّي عن تلزيمات وصفقات وسمسرات، وحجب دفاتر الشّروط عن إدارة المناقصات.
ودارت الرابعة، حول مرسوم منح الأقدميّات لعسكريين، والتجاوز المتعمّد لتوقيع وزير المال على هذا المرسوم.
ودارت الخامسة، في مرحلة الامتناع عن إلحاق الناجحين في مباريات التوظيف في الفئات الرابعة والخامسة.
ودارت السّادسة في مرحلة تحرّك مياومي الكهرباء والانتقائيّة في التعاطي معهم من قبل وزارة الطاقة.
ودارت السّابعة، والتي كانت تنطوي على كثير من التجنّي والاستفزاز…
مع الهجوم غير المبرّر من قبل رئيس الجمهوريّة وفريقه على المجلس النيابي،
والعودة إلى النّغمة القديمة والقول بأن لا شرعيّة لمؤسّسات الدولة قبل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهوريّة.
أذكر أنّني انتظرت آنذاك، أن يصدر توضيح لهذا الكلام المهين للمجلس النيابي من قبل رئاسة الجمهوريّة
أو من (تكتل الإصلاح والتغيير). ولمّا لم يحصل ذلك، سارعت إلى الردّ بكلام أردته في منتهى القسوة، وقلت:
لمن عُرفوا بشعراء البلاط، واشتهروا بتمسيح الجوخ، أقول تواضعوا يا سادة، واعقلوا،
فمن هو بيته من زجاج حري به ألّا يرمي أحدا بحجر… مجلس النوّاب لا يطلب منكم شهادة بشرعيّته. هذا المجلس شرعيّ،
ورغم تمديد ولايته، أنقذ لبنان في مرحلة الفراغ الرئاسي، وانتخب فخامة الرئيس الشّرعي، بانتخاب شرعيّ، في جلسة شرعيّة،
وما يُبنى على الشّرعي فهو شرعيّ، إلا إذا كنتم تقصدون العكس”.