المصدر: ليبانون ديبايت
فَقَدَ لبنان الكثير من ميزاته التي كان يتباهى بها لسنوات، وبدت بلاد الارز متعبة ومرهقة تقاوم الاستسلام لقدرها لكنها تعجز عن وقف النزيف الداخلي الذي أرهقها وأدخلها في سُبات عميق انتزع منها رئتيها مُتنفس دول وحضارات.
في هذه المرحلة الصعبة التي تمر على لبنان تفرض لغة الارقام نفسها وتشكل قراءتها صدمة لكل من يريد معرفة مستقبل هذه البلاد في ظل ما تعانيه من انهيار على الصعيدين الاقتصادي والمالي، حيث تراجعت عشرات السنوات الى الوراء بفعل انهيار اصاب القطاعات المهمة التي كانت عنصر جذب واستثمار للخارج.. فما هي الخمس ميزات التي فقدها لبنان وشاءت الصدف أن تبدأ كلها بحرف “الميم”
1- المصارف: شكل هذا القطاع رافعة للاقتصاد وعنصر جذب للمستثمر الاجنبي، ولطالما تغنى لبنان بقانون السرية المصرفية الذي استقطب رؤوس الاموال الكبيرة فوجدت أمنها المالي هنا، وكانت العمليات المصرفية بعد الحرب عنصرا اساسيا في انعاش دورة الحياة اللبنانية والمصرف الملاذ الآمن للمستثمر الخارجي وللمواطن اللبناني الباحث عن دائن قوي يقف الى جانبه في بناء مستقبله المهني أو العائلي، من قرض البيت الى السيارة كما القروض المدعومة للمؤسسات الصناعية أو تلك الصغيرة. كان المصرف “قجة” اللبناني، وللمستثمر الاجنبي شبكة أمان لمشاريعه الكبيرة وعامل استقرار نقدي يدفعه الى التوسع أكثر في تلك المشاريع التي أنعشت الاقتصاد لاسيما في مرحلة التسعينات. هذا القطاع الذي عانى من تدخلات وحروب خاضها البعض خلف الحدود من المتضررين بنجاح السياسة اللبنانية، اصيب في السنتين الاخيرتين بضربة كبيرة أفقدته قدرة التحرك في الداخل، ودعم بعض الاطراف سياسة ضرب ما اسموه “حزب المصرف” من حيث الشكل،
أما في المضمون فكان الهدف واضحا وهو اسقاط “المؤسسة المصرفية” واستبدالها بمؤسسات رديفة للاحزاب والقوى المحاصرة عالميا. كانت نتيجة الحرب على المصارف قاسية جدا دفع ثمنها المودع الخائف على جنى عمره من التبخر،
وتحولت الاشكالات على ابواب المصارف الى خبر يومي يعجز المصرف
عن اخماد نيرانها فلا هو قادر على تلبية مطالب المودع ولا الاخير قادر على الانتظار الصعب للحصول على فتات ودائعه.
2- المستشفى: لم يصمد القطاع الاستشفائي طويلا أمام هول الكارثة، فالمصائب نزلت على القطاع كالمطر في أقل من سنة..
بدأت معالم الانهيار مع ارتفاع سعر صرف الدولار، فانعكس ذلك على القطاع بمعداته الطبية والبشرية،
فالاولى لم يعد استيرادها ممكنا مع فارق سعر الصرف الذي وصل الى 15 ألف ليرة للدولار الواحد،
وهذا المبلغ فاق قدرة المستشفى على متابعة خدمتها للمريض تراجعت عندها النوعية
ولم يعد بالامكان الاستحصال على الخدمة الممتازة التي كانت متوفرة من قبل.
عزز انفجار المرفأ من سلطة الانهيار وخرجت اهم المستشفيات عن الخدمة نتيجة الضرر الكبير
الذي اصابها وتوزع الجرحى على مستشفيات العاصمة الذين لم يصابوا بعصف الانفجار وبعض المستشفيات في المناطق،
وجاءت كورونا لتقضي على ما تبقى من هذا القطاع،
وكشف الفيروس العورة الكبيرة للسياسات الصحية التي كانت متبعة مع القطاع الصحي الحكومي
حيث وجدنا ان المستشفيات الحكومية تفتقد الى أدنى المعايير نتيجة الاهمال لاسيما في بعض المناطق.
كل هذه العوامل دفعت بنقيب المستشفيات الى اعلان انهيار القطاع وعدم قدرته على الاستمرار.
غير أن الخطير في هذا الانهيار الشامل،
هي هجرة الاطباء والممرضين في الاشهر الستة الاخيرة وعكس ارتفاع الارقام
مستقبل القطاع الاستشفائي خصوصا وأننا لا زلنا في بداية مرحلة الانهيار،
اذ لم يحدد السياسيون سقفا زمنيا لها قد يساهم بفرملة هذه الهجرة.
الخطورة في فقدان العنصر البشري تكمن بصعوبة ايجاد البديل النوعي لا الكمي،
وتبرز المخاوف في هذا السياق من تراجع نوعية الخدمة مع اعتماد اطباء أقل كفاءة من الذين هاجروا الى الخارج.
3- يقودنا الانهيار الاستشفائي وسقوط المستشفى في لبنان الى البحث عن مصير “المدرسة”.
فالنظام التعليمي اللبناني هو الآخر مهدد بالسقوط المدوي بفعل الازمة الكبيرة التي نمر بها.
آثار الازمة الاقتصادية تهز شباك القطاع التربوي، ففي ظل هجرة كبيرة للاساتذة الى الخارج بحثا عن “الدولار”
وعلى وقع الصرخة التي أطلقها القطاع التعليمي الخاص الذي يشكل عامودا فقريا تربويا في لبنان،
بات التلميذ أسير سعر الصرف. الكثير من العائلات واجهت في فترة كورونا أزمة البحث عن “كومبيوتر”
لاولادها بعد فرض التعليم عن بعد. اسعار “اللابتوب” التي فاقت العشرة ملايين دفعت بهؤلاء الى “ترقيع”
الموجود وهذه الخطوة هي مثال لتراجع الادوات والخدمات بأيدي الطلاب،
وبالتالي تراجعت معها نوعية التعليم مقارنة مع الخارج اما انعكاس ذلك فيكون على قيمة
الشهادة من الجامعات اللبنانية حيث تبرز مخاوف من فقدان عنصر قوتها ان لم يكن هناك مواكبة جدية لكل التطور الخارجي.
ويأتي في الاطار دور “الارساليات” لتملأ فراغ الدولة التي امعنت بتفريغ المدرسة الرسمية من محتواها.
4- الميزة الرابعة التي فقدها لبنان “المصيف”..
فالحديث عن لبنان ما قبل الحرب وما بعدها، يقودنا الى التوأمة بين القطاعين المصرفي والسياحي
واستقطابهما للعامل الخارجي الذي كان يأتي الى لبنان سائحا “دينيا وصحيا وتربويا وصحيا..”
فالتخصص السياحي ولد في بلاد الارز نظرا لثقافة اللبناني الجامعة والامكانيات
المتوفرة لديه في هذا القطاع يجذب من خلالها العربي والغربي،
كما يستطيع تأمين كل ما يريد السائح من ثقافتين مختلفتين.
هذا القطاع الذي شق طريقه في الخارج على المستوى العربي والدولي التحق بسائر القطاعات التي تشهد انهيارا كبيرا،
وقد فقد القطاع السياحي قيمته في الازمتين الاقتصادية والصحية،
فاغلقت الفنادق والمطاعم ابوابها وتراجعت خدماتها نتيجة الغلاء الفاحش والاضطرابات الامنية التي تضرب البلاد،
وهذه العناصر تشكل خطرا كبيرا على السياحة التي تتطلب استقرارا امنيا وسياسيا لجذب السائح،
وفي لبنان تراجع القطاع السياحي أكثر من سبعين في المئة منذ العام 2010
الى اليوم والقيمين عليه يؤكدون أننا سنشهد ان بقيت على حالها في الاشهر المقبلة
اغلاق فنادق كبيرة ومطاعم شهيرة وقد يغادر اصحابها لبنان للاستثمار في الخارج.
5- الميزة الخامسة التي تشكل ركنا اساسيا في المجتمع ووجودها يعتبر ضمانة للميزات الاربعة وفقدانها
يعني انهيارها هي “المقاومة”. يحمل هذا المصطلح ابعادا كبيرة ولا ينحصر بفئة أو طرف، بل هو مسار وثقافة بابعاد وطنية
تعني كل مقومات صمود الوطن، وهذه الميزة يفتقدها اللبناني اليوم المستسلم
للامر الواقع رافعا الراية البيضاء بحثا عن سلام داخلي مفقود وزعماء سياسيين وطنيين لا طائفيين يعطون الوطن
اولوية على مصالحهم.. اللبناني اليوم يفقتد المقاومة التي تمكنت من خلالها شعوب العالم
من التحرر وبناء الوطن القادر والقوي الذي يعتبر مواطنيه “سواسية” في الحقوق والواجبات.