المصدر: لبنان 24
لم تنتهِ فصول مسرحية القاضية غادة عون، التي شغلت الناس في اليومين الماضيين، وهي مستمرة ما لم تُسدل الستارة عن أفظع فضيحة في تاريخ القضاء اللبناني، الذي يزخر بإنجازات كثيرة، على رغم التدخلات السياسية على مرّ العصور، والتي تكاثرت في الآونة الأخيرة.
فالقضاء يا سادة ليست دكانًا وليست “بسطة” تُعرض عليها ما هبّ وما دبّ من “البالية”، وهو ليس مستباحًا كما يحلو للبعض تصويره على غير حقيقته. فما زال في لبنان قضاة تُرفع لهم القبعة، وتُضرب في مناقبيتهم الأمثلة، وعليهم التعويل لكي يستعيد الجسم القضائي عافيته، بعدما سمح بعض الذين يعتقدون أن الدعم الآتيهم من وراء كراسي المسؤولية سيدوم إلى الأبد. فهذا الدعم المزيّف ذاهب حتمًا مع صاحبه، إذ لم نسمع يومًا أن أيًّا من المسؤولين قد “خلّد”، وبقي متربعًا على كرسيه، على رغم ما شهدناه من تمديد لبعض رؤساء الجمهوريات، غصبًا عن إرادة اللبنانيين.
ما فعلته القاضية غادة عون سابقة خطيرة في تاريخ القضاء ، وحتى في تاريخ لبنان. لكن السابقة الأخطر هي أن يقول بعض السياسيين إن “الثورة الحقيقية هي ثورة القضاء النزيه الذي يلاحق قضايا الناس بوجه بعض القضاة الفاسدين الذين يخبّئون بعض الملفات ويقصّرون في بعضها ويعطّلون بعضها الآخر”.
هل يعتقد هؤلاء، ومعهم شريحة من “المبرمَجين” غرائزيًا وطائفيًا، أن ما فعلته هذه القاضية المثيرة للجدل “ثورة” في وجه الفساد،
أم أنه الفساد بحدّ ذاته، لأن محاربة الفساد، إن لم يكن شعارًا فولكلورياً، تكون بإعادة الهيبة إلى الجسم القضائي،
ورفع يد السياسيين عنه، وعدم زجّه في مجمر الفساد السياسي، الذي أدّى إلى ترّبع لبنان على عرش الدول الأكثر فسادًا.
إذا أردتم محاربة الفساد بالفعل وليس بالقول أفرجوا عن التشكيلات القضائية وحررّوها من أسرها،
وأمنعوا القضاة المحسوبين على خطّكم السياسي من فتح قضاء على حسابهم الخاص،
والتصرّف كتصرّف الميليشيات والبلطجية وقطاع الطرق.
هل تريدون قضاء مستقلًا، كما تدّعون، فعلًا لا قولًا، إرفعوا أيديكم عنه وأبعدوا محاسيبكم،
الذين هم من داخل الجسم القضائي عن أي مسؤولية، وبذلك تبعدون الشبهات عنهم وعنكم،
وتظهرون للملأ أنكم غير طامحين لأكثر مما وصلتم إليه.
فالقضاة المسيسون والمحسوبون عليكم، كخطّ سياسي، وعلى غيركم، يسيئون إليكم وإليهم،
ويسيئون أولًا وأخيرًا إلى صورة القضاء، التي يجب أن يبقى فوق كل الشبهات،
ويسيئون إلى العهد، الذي لا يحتاج إلى من يسيىء إليه، بل إلى من يعطيه بعض الأمصال لكي يستطيع أن يكمل ما تبقّى له من أيام.
نفهم أو نتّفهم أن يكون تأثير القاضية عون على عدد من النشطاء الحزبيين وغير الحزبيين كبيرًا،
وأن يؤخذ هؤلاء بشعارات أثبتت التجارب أن أضرارها أكثر من منافعها،
وأن تقنع البعض بأن ما تقوم به هو عين الصواب من أجل إستعادة أموال الناس المنهوبة والمصادرة،
ولكن لا نفهم أن يصدر عن بعض من يُفترض بهم أن تكون لديهم رؤية أبعد من المنخار،
ما صدر من مواقف مؤيدة للحركة التمردية، فلا يرون سوى ما هو ظاهر في “ظاهرة” القاضية المسيسة والمثيرة للجدل.
سؤال برسم القاضية المتمردّة: ماذا لو اكتشفتِ أن ليس لشركة مكتف للصيرفة أي علاقة بتهريب الأموال إلى الخارج،
فمن يعوض معنويًا عن هذه الشركة أو غيرها من الشركات؟ هل هكذا يكون التحقيق، وهل بهذه الطريقة تصل إلى الناس حقوقهم؟
كفانا شعارات وحروبا وهمية في غير مكانها، فيما الناس يهيمون على وجوهم تأئهين ومغلوب على أمرهم،
ولا يجدون من المسؤولين يمكن الإتكال عليه للخروج من هذه الأزمة، التي تبدو حتى إشعار آخر من دون أفق ومن دون بوادر حل.
فمن يقف وراء القاضية عون كثر، وهم الذين أوصلوا البلاد إلى ما وصلت إليه، وهم معروفون من القاصي والداني.