بقلم خالد ابو شقرا – نداء الوطن
تتشابه سياسة إدارة الأزمة النقدية المرحلية بين كل من مصرف سوريا المركزي ونظيره اللبناني. وإذا كان المصرفان يهدفان بالشكل إلى تأجيل الإنفجار وإطالة عمر نظاميهما، فإنهما يحاولان في المضمون امتصاص ما تبقّى من دولارات تتناقل بين البلدين. وتنحو سياستهما تدريجياً باتجاه الاعتراف بسعر السوق الموازية الذي ظل مقيداً لعقود من الزمن.
لم تعد حيازة القطع الأجنبي (الدولار) مُخالفة يحاسب عليها القانون في سوريا بناء على المرسوم 54. وتم السماح بادخال الأوراق النقدية (البنكنوت) حتى مبلغ 500 ألف دولار من الحدود البرية، شريطة التصريح عنها أصولاً وفق النماذج المعتمدة من قبل هيئة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وشرّع النظام تسليم الحوالات المالية على سعر الصرف المرفّع حديثاً إلى 2500 ليرة، بعدما كان قد ألزم السوريين استلامها على سعر 1250 ليرة لفترات طويلة. في المقابل لم يلغ النظام قانون الإعفاء من الخدمة العسكرية مقابل دفع 3 آلاف دولار على سعر صرف 2500 ليرة سورية. وأبقى كذلك على إجبار كل سوري يدخل إلى البلد تصريف 100 دولار على سعر الصرف الرسمي.
هذه التطوارت التي تحمل بعداً إقتصادياً ونقدياً سيغير وجه النظام الإقتصادي (الإشتراكي) في سوريا، لن يكون لبنان بمعزل عن تداعياتها في المستقبل القريب. فتحويلات العمالة السورية التي ظلت محدودة جدا ًطيلة الفترة الماضية نتيجة الفرق الكبير بين سعر تسليم الحوالات وبين سعر صرف الدولار في السوق الموازية (وصل الفرق إلى 3750 ليرة سورية لكل دولارقبل أن ينخفض إلى 1750 ليرة) ستستأنف نشاطها. وهذا ما سيمثل زيادة بالطلب على الدولار في لبنان من قبل نسبة كبيرة من السوريين العاملين الذين يتجاوز عددهم المليون عامل. كما أن السماح بادخال وحيازة مبالغ نقدية بالدولار تصل إلى 500 الف، سيشجع الكثير من السوريين على بيع مدخراتهم بالليرة اللبنانية وشراء الدولار ونقله إلى سوريا، سواء لإنشاء مصالح أو لترميم منازلهم أو غيرها الكثير من الأسباب. هذا وسيؤدي استمرار العمل بقانون إلزام كل سوري يدخل بلاد الشام تصريف 100 دولارعلى سعر الرسمي، إلى زياة طلب السوريين في لبنان على الدولار. حيث يتطلب من عائلة واحدة مؤلفة من 5 أشخاص تحويل 6 ملايين و700 ألف ليرة إلى 500 دولار لمجرد التفكير في زيارة سوريا. كما أن اقتراب السعر الرسمي من سعر السوق الموازية سيشجع الكثير من الفارين من الخدمة العسكرية على دفع 3 آلاف دولار أو ما يعادل 7 آلاف و650 ليرة سورية لاعفائهم منها. هذه العوامل مجتمعة إذا ما أضيفت على سياسة تقنين الدعم التي يعتمدها “المركزي” اللبناني، ستؤدي إلى طلب غير مسبوق على الدولار، ولارتفاع كبير في سعر الصرف.
على الرغم من التشابه الشكلي في سياسات المصرفين المركزيين السوري واللبناني، فقد “أظهر الأخير أنه أكثر كفاءة من نظيره اللبناني”، يقول الكاتب في الإقتصاد السياسي د. بيار الخوري. فـ”سوريا تحركت من نظام صرف ثابت الى التحرير، بينما لبنان انتقل من نظام صرف حر الى نظام عائم متسخ (dirty float) وهو نظام غير واقعي، أدى إلى ظهور السوق السوداء. كما أن المركزي السوري يعمل على استراتيجية واضحة تقوم على تقديم الاغراءات لرؤوس الاموال من كافة الاحجام للتعامل مع نتائج الحرب، ومع عقوبات “مغنتسكي” باقل الخسائر الممكنة. وعليه فُتحت كل ابواب استقطاب العملات الاجنبية، وليس تقليص الفارق بين أسعار الصرف إلاّ أحدها. ويضاف إليه ضرورة تصريف مئة دولار على المعابر الحدودية للقادمين، حرية حيازة العملات الاجنبية لكل مواطن حتى نصف مليون دولار وغيرها مما سيظهر تباعاً. كل ذلك لانجاح الاستراتيجية المذكورة.
لكن ماذا عن لبنان؟ يجيب الخوري: “هناك غياب كامل لاي استراتيجية في أسواق الصرف، حيث لا تجد إلا ردات الفعل. وببعض المخاطرة أقول إن في لبنان استراتيجية معاكسة لاستنزاف الدولارات من البلد. صدق او لا تصدق! دعم المستوردين، تفلت سوق التهريب وعدم اقرار قانون فعال لـ”الكابيتال كونترول”… كلها تعني تلك الاستراتيجية المعاكسة. ولبنان برأيي قد يستفيد من صيف سياحي، لكن اموال الصيف الموعود ستهدر في الدلو المثقوب كما هدرت العشرات اضعافها سابقاً. بالتأكيد رفع الدعم وعدم وجود استراتيجية لاستقطاب العملات الصعبة وعدم الشروع في إصلاحات جذرية، كلها ستبتلع أموال الصيف مهما بلغت”.
وفي ما خص المشترك في سياسة الصرف بين لبنان وسوريا يرى الخوري أن “دفع السعر الرسمي نحو السعر الواقعي، أو ما يعرف عامة بسعر صرف السوق السوداء، هو اتجاه عالم ثالثي غير جديد. حيث يعتمد تحرير سعر العملة على سلسلة من الصدمات الخفيفة ذات الارتدادات المحسوبة، تؤدي في نهاية المطاف الى التحرير الكامل لسوق الصرف”.
إلا أن “مشكلة هذه السياسة التي ينتهجها المصرف المركزي السوري ستكون إضعاف الليرة السورية اكثر، والتقليل من التعامل بها، وافقادها أحد أهم خصائصها السيادية”، بحسب الباحث السوري في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، سمير التقي. “الأمر الذي يدفع إلى أن يكون الدولار هو العملة المرجعية الوحيدة بعد تراجع الطلب على العملة السورية. وسيؤدي حكماً إلى إجراء كل المعاملات في سوريا بالدولار. وفي المقابل كلما تقلص الطلب على العملة الوطنية كلما ضعفت أكثر. الأمر الذي لا يجعل من العملة السورية رهينة للدولار فحسب، إنما ستجد شريحة كبيرة من الموظفين والمجبرين على التعامل بالليرة السورية نفسها أمام ارتفاع هائل بالأسعار وعجز عن تأمين أبسط المتطلبات الحياتية، والتي قد يكون توفير إجرة النقل من البيت إلى العمل واحدة منها. وهذا ما سيزعزع الوضع الإقتصادي”. وعن مصادر تأمين الدولار إلى الداخل السوري يعتبر التقي أن لبنان سيكون مصدراً مهماً لتأمين الدولار، إلا أن التدفقات الكبيرة ستأتي من عدة أماكن بما فيها الأماكن خارج سيطرة النظام عن طريق تركيا. وبالتالي يعتقد التقي أن “محاولة المركزي أضعف من أن تكون قادرة على المأزق الإقتصادي في سوريا وستؤدي إلى انهيار الليرة”.
خطوة المصرف المركزي السوري تخفيض قيمة عملته من 1250 إلى 2500 ليرة صراحة، لحق بها المركزي اللبناني مواربة. حيث شكل إطلاق منصةSAYRAFA “صيرفة” إعترافاً رسمياً غير مباشر، بان سعر الصرف الأقرب إلى الحقيقة هو 12 ألف ليرة، وليس 1515 ولا 3900 ليرة كما ظلوا يدعون طيلة الفترة الماضية، يقول الخبير الإقتصادي د. باتريك مارديني. و”هذا الإعتراف الذي سيدار بواسطة المنصة، يشكل المقدمة لاعتماد نظام صرف عائم لليرة اللبنانية يسمح بتدخل المركزي عند الضرورة، ما يعرف نقدياً بـ MANAGED FLOAT”. إلا أن هذا الإجراء الذي قد يؤدي إلى انخفاض طفيف بالدولار في القريب العاجل نتيجة توهم المواطنين، أو بسبب ضخ المركزي بعض المبالغ بالعملة الأجنبية في الأسواق، سيفشل في النهاية. فارتفاع سعر صرف الدولار برأي مارديني “مرتبط بحجم طباعة الليرة اللبنانية. وكلما طبعنا أكثر ارتفع سعر الصرف أكثر”.
الإعتراف بالدولارات الجديدة التي تدخل سوريا وشرعنتها، قابله لبنانياً ترسيخ مبدأ الفصل بين الدولار القديم والدولار الجديد. فالقديم ما زال واقفاً على عتبة 3900 ليرة، في حين اصبحت قيمة الجديد 12 ألفاً. هذا الترسيخ يعني عملياً “إعتراف بـ”الهيركات”، حيث أصبحت قيمة الدولار الجديد ثلثي قيمة الدولار القديم”، برأي مارديني. في الوقت الذي تعمل فيه سوريا الإشتراكية على فتح اقتصادها واستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية، يقيّد لبنان الليبرالي، الإقتصاد الحر أكثر، ويدفع إلى “تهشيل الرساميل”. وللمفارقة فان كلاً من الجمهوريتين اللبنانية والسورية اللتين سارتا باتجاهين متعاكسين يتقاطعان اليوم في السياسات النقدية.