المصدر: الحرة
لم يعد مشهد طوابير السيارات المصطفة لمسافة عشرات الأمتار أمام محطات التزود بالوقود يثير الاستغراب بين اللبنانيين على الرغم من إحساسهم بالغضب إزاء هذه الأزمة الفريدة التي قلما عايشوا مثلها بهذه الحدة منذ نهاية الحرب الأهلية منذ 30 سنة، وأصبحت تتسبب بحوادث أمنية وشجارات يومية.
وتصطف السيارات يوميا في كل المناطق بانتظار أن تبدأ محطات الوقود عملها لتلبية احتياجات عملائها. صار مشهد السيارات التي فرغت خزاناتها من الوقود والمتوقفة على جوانب الطرقات الداخلية والسريعة عاديا، فيما تتعثر جهود تأمين استيراد المحروقات من الخارج بسبب عدم توفر ما يكفي من الدولارات في خزانة الدولة، ما يخلق حالة من الهلع بين المواطنين من احتمال اختفائه لفترة طويلة.
في بلد يفتقر إلى شبكة مواصلات عامة فعالة تؤمنها حافلات النقل لمختلف المناطق، وأهمل خط للسكة الحديد كان يمكن أن تخفف ازدحام الطرق، خاصة في العاصمة بيروت، اعتاد المواطنون امتلاك سيارات خاصة، لأن تنقلاتهم من دونها تستدعي جهدا يوميا شاقا ومكلفا.
يكاد لا توجد عائلة لبنانية لا تمتلك سيارة واحدة على الأقل، في أحيان كثيرة عدة سيارات بحسب عدد أفراد العائلة، وهو ما يفاقم مشكلة الازدحام الخانق، وزيادة استهلاك الوقود، ويعمم ظاهرة طوابير السيارات المنتظرة أمام محطات التزود به، ويؤدي أيضا إلى إثارة القلاقل والعنف كالتي تسببت قبل أيام بسقوط قتيل في إحدى المحطات في شمال لبنان.
ودعا عضو نقابة أصحاب محطات المحروقات، جورج براكس، السلطات الأمنية إلى توفير الحماية لأصحاب المحطات بسبب “الاعتداءات التي لا إحصائيات دقيقة لها، لكنها تحدث يوميا، وكان أكثرها فظاعة سقوط القتيل” في بلدة ببنين في الشمال وذلك في إطلاق نار بسبب ما يبدو أنه خلاف حول أولوية تعبئة الوقود.
بينما يجدد المسؤولون الدعوات للبنانيين إلى عدم الهلع من احتمال انقطاع الوقود، فإنهم أصدروا قرارا بمنع تعبئة القوارير البلاستيكية بهذه المادة لتخزينها في بيوتهم لأن ذلك يشكل خطرا على سلامتهم وضغطا إضافيا على محطات البنزين.
وقع حادث آخر تمثل في محاولة راكب دراجة نارية إحراق شرطي سير في مدينة صيدا عندما أراد تسطير مخالفة بحقه لأنه كان ينقل قوارير وقود.
لا يتوقع براكس نهاية وشيكة لهذه الحوادث طالما أن هناك شح في الوقود ما يؤجج حالات الشجار بين المواطنين أو بين أصحاب السيارات والعاملين في المحطات.
يتبدد تفاؤل اللبنانيين سريعا ما أن تصلهم أنباء عن وصول باخرة محملة بالوقود،
ذلك أن الاستهلاك على حاله، كما هو الهلع من احتمال انقطاعه في اليوم التالي في بلد يحتاج يوميا إلى نحو 4 ملايين لتر من الوقود.
ويحيل براكس الأزمة القائمة منذ أسابيع عديدة إلى شح الدولار من الأسواق وعدم قدرة البنك المركزي
على تأمين الاعتمادات المالية اللازمة لاستيراد هذه المادة المدعومة.
وقال “هناك بواخر وقود تأتي بشكل دائم، ولكن هناك حلقة استيراد واستهلاك متواصلة”.
منذ عام 2020، يشهد لبنان أصعب أزمة اقتصادية في تاريخه الحديث، في ظل عجز هائل في موازنة الدولة،
فيما قام البنك المركزي باحتجاز حسابات المودعين، خاصة الدولارية،
وفرض العديد من القيود على سحبها واستخدامها، بما في ذلك الموافقة على طلبات التمويل التي تحتاجها الحكومة
من أجل عمليات استيراد سلع أساسية مدعومة، كالوقود.
وتسود بالفعل مخاوف من أن يؤدي رفع الدعم المحتمل عن الوقود إلى زيادة حالات الشجار في المحطات،
وإلى اضطرابات اجتماعية أوسع. وتباع “صفيحة الوقود” (تعادل 20 لترا) بنحو 40 ألف ليرة حاليا (28 دولارا).
في الشركة الدولية للمعلومات المختصة بالدراسات والاحصاءات،
يقول الباحث محمد شمس الدين، إن الشركة نشرت للتو دراسة خلصت إلى أنه في حال رفع الدعم وثبات الأسعار
عالميا واستقرار الدولار على سعر 13 ألف ليرة (كما هو متداول حاليا في السوق السوداء)،
فان سعر صفيحة الوقود سيصل إلى 150 الف ليرة. ويشكل هذا الرقم كارثة بالنسبة لأصحاب الدخل المحدود
في بلد يبلغ فيه الحد الأدنى للأجور 675 ألف ليرة فقط.
لهذا لا يستبعد براكس استمرار هذه الظاهرة، ما يعني أن حالة القلق والطوابير الطويلة على المحطات،
ستظل قائمة. لكنه يدعو اللبنانيين في المقابل إلى “البدء بالاعتياد على أن الأوضاع تغيرت،
ولم يعد أمرا طبيعيا الدخول إلى محطة التزود لملء خزان الوقود بالكامل،
مثلما كان يحدث معنا أيضا في الماضي في السوبرماركت أو في الصيدلية”.
هادي نحلة (40 سنة)، قرر المبادرة كما يفعل لبنانيون عديدون في هذه المرحلة،
وتخلى عن سيارته واستبدلها بدراجة نارية، طالما لا توجد وسائل نقل عامة تلبي حاجته الى التنقل بين المناطق لمتابعة عمله.
ويقول نحلة،وهو مقيم في منطقة خلدة، بالقرب من بيروت،
“اشتريت دراجة نارية لأنني إذا كنت أملأ خزان سيارتي بخمسين ألف ليرة مثلا، فإن الدراجة يكفيها 10 آلاف،
واستخدمها لفترة طويلة أكثر، وأقوم بجولاتي في المدينة بسهولة أكبر، في ظل غلاء البنزين وازدحام الطرق”.
ويتحسر اللبنانيون على الأيام التي كانت فيها مناطق بلادهم ترتبط ببعضها منذ العام 1890 من خلال شبكة للسكك
الحديد شمالا وجنوبا وفي سهل البقاع، وصولا إلى الدول المجاورة.
مضى أكثر من قرن على بداية تلك التجربة الفريدة، لكن محطات التوقف المتهالكة وعربات القطارات
الموزعة ما بين مناطق بعلبك ورياق وطرابلس وصيدا، تشهد بصدئها على طريق الانهيار وتجاهل الحلول الذي سار عليه لبنان.