المصدر: النهار العربي
اللبنانية ياسمين المصري ليست نسخة لبنانية عن الفرنسي داميان تاريل، كما أنّ رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل ليس نسخة لا عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ولا حتى عن رئيس حزب “المتمرّدين” جان لوك ميلونشون الذي تمّ رشقه بالطحين، بعيد حدث “الصفعة الرئاسية”.
اللبنانية المصري هي النقيض الصارخ لتاريل الفرنسي. هي تفوّهت بكلمتين، هو صفع. هي انتفضت باسم اللبنانيين المعذّبين ضد رمز من رموز تعذيبهم، هو حرّكه تعصب يميني عقائدي لا صلة له بالفساد والسرقة واستغلال النفوذ وتفريغ السلطة وتهجير شعب وتجويعه وقتله. هي ضُربت وأهينت وأصبحت عرضة لحملة ترهيب منظّمة، هو تمّ تسليمه الى المراجع القضائية المختصة. هي كانت ضحية جريمة “استيفاء الحق بالذات”، هو أصبح في عهدة العدالة.
وجبران باسيل ليس نقيض إيمانويل ماكرون فحسب، بل جان لوك ميلونشون أيضاً.
باسيل أمر بالتعرّض لياسمينا. ميلونشون اكتفى بـ”نفض” الطحين العالق عليه. باسيل اعتبر عبارة “تفه عليك” اعتداءً سافراً على “مقامه” الذي يتوهّم أنّه “سامِ”. ميلونشون ابتسم وقال للمحيطين به: “إنّه مجرد طحين”.
ميلونشون وغيره من السياسيين الفرنسيين، مهما علا مقامهم، يعرفون أنّ “تربية” المواطن ليست مسؤوليتهم، فهم ليسوا لا آباء ولا آلهة ولا أولياء، وكل انحراف عن ذلك، كما تبيّن التجارب، مكلف للغاية، وفق نموذج “ألكسندر بِنَ الله”.
بِنَ الله والمصري
في الأوّل من أيّار (مايو) 2018، اندسّ “بِنَ الله”، أحد الحرّاس الشخصيين للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بين رجال الشرطة، حيث اعتدى على عدد من المتظاهرين الذين رفعوا شعارات معادية لماكرون، فـ”قامت الدنيا ولم تقعد”: تحرّك القضاء ضد “بِنَ الله”، وسُجن وفُصل من وظيفته، وتبرّأ رئيسه منه، وشُكلت لجنة تحقيق برلمانية انتهت الى تقرير تفضح فيه مدى استفادة هذا “المهووس” من موقعه بالقرب من ماكرون الذي لم يخرج سالماً سياسياً من هذه القضية.
عندما يطّلع “بِنَ الله” على ما حصل لحرّاس باسيل ومؤيديه بعد الاعتداء على شابة انتفضت بوجه رمز سلطوي ضد الكارثة التي ترزح بلادها تحت ثقلها، سوف يلعن الساعة التي أتى فيها الى فرنسا وعمل الى جانب أقوى شخصياتها.
وبالفعل، ففيما اشمأزّت فرنسا، بسلطاتها ومؤسساتها وشعبها، من سلوك “بِنَ الله”، أصدر باسيل بياناً يُحرّض فيه أتباعه ضد كل مواطن يمكن أن يتعرّض له حتى ولو بكلمة، وكأنّ الدولة التي يترأسّها والد زوجته ومؤسّس حزبه وينتشر أزلامه في كل مفاصلها، ليست أكثر من غابة.
التّحريض الباسيلي
وفي بيان أصدره مكتبه جاء الآتي:” إنّ النائب باسيل يطلب من جميع المناصرين والمسؤولين والمنتسبين الى التيار الوطني الحر عدم السكوت إطلاقاً والرد بما يناسب على أيّ اعتداء كلامي أو معنوي أو جسدي يتعرض له أي شخص منهم على يد بعض الناس الذين لا يقيمون للكرامة وزناً. انتهى زمن الشتيمة من دون جواب”.
إنّ ما ورد في هذا البيان غير مسبوق في دول العالم، فهو لا يُغطّي جريمة حصلت ضد شخص ياسمين المصري فحسب، بل يحرّض، بوجه مكشوف، على ارتكاب جرائم أعنف منها، بحق أشخاص محتملين، أيضاً.
ولمن لا يعرف، فإنّ الحروب الأهلية تبدأ من هذه النقطة بالتحديد، حيث يتم تعميم ثقافة “استيلاء الحق بالذات”، فتسقط مرجعيات الفصل والحسم الدستورية، لمصلحة مواجهات أهلية.
ويكشف هذا البيان بعض أسباب انهيار البلاد، فـ”دعوسة” الدستور ومعه كل القوانين المرعية الإجراء، لا تقتصر على معاملة المواطن الذي “ضاق خلقه”، بل هي نهج اعتُمد في كل المجالات الوطنية والسياسية، بدءاً بتكريس سلاح “حزب الله” بكل أدواره الارتزاقية، مروراً بقوانين الانتخابات وتشكيل الحكومات، وصولاً الى تعيين الأزلام والمحاسيب في كل مفصل من مفاصل الدولة.
وعليه، فإنّ هذا البيان الباسيلي ابن بيئة لا تحمي القتلة فحسب بل تقدّسهم أيضاً، ولا تستخف بالمواطن فحسب، بل تقتله.
وقد فصّلت ياسمين مصري هذا البعد، وفق مفهومها كمواطنة، في شرحها لعدد من وسائل الإعلام أسباب توجّهها الى باسيل بعبارة “تفِه عليك”.
أشارت الى أنّ باسيل هو رمز من رموز السلطة التي صادف أنّه أوّل مسؤول تلتقي به، بعد انفجار مرفأ بيروت الذي أتى على منزلها، وكلامها اليه يعنيه كما يعني جميع من هم في السلطة اللبنانية، على حدّ سواء.
وإذ اعتبرت أنّها بعبارة “تفه عليه” لم تهن باسيل، بل قامت بواجبها كمواطنة ضد طبقة سياسية اقترفت كل الموبقات التي اقترفتها، ولا تزال تتصرّف كأنّ شيئاً لم يكن، قالت إنّ الإهانة الفعلية هي أن يلتقي أيّ مواطن بأي مسؤول ولا يقول له: “تفه عليك”.
إنّ أيّ مسؤول سياسي يدّعي الديموقراطية والرقي والحضارة، عندما يتوجّه إلى الأماكن العامة، لا يمكنه التحصّن بـ”قدسيّة الحياة الخاصة”، لأنّه، في الواقع، هو، بكل تفصيل من تفاصيل حياته، “شأن عام”، ولهذا، فهو يكون منفتحاً تلقائياً على التأقلم مع “حرارة القواعد الشعبية” التي يأخذها معياراً من معايير قياس النهج الذي يتّبعه.
ما قام به جبران باسيل ضد ياسمين المصري وما أورده في بيانه من تحريض، يذهبان في اتجاه معاكس، بحيث يريد أن يفرض احترام الناس له بما يملكه من وسائل عنفية.
ما قام به جبران باسيل نموج سيّئ عن طريقة تعاطي كثيرين في الطبقة السياسية اللبنانية مع المواطنين، ما قامت به ياسمين المصري، نموذج جيّد عن الطريقة التي يجب أن يتعاطى بها المواطنون مع هذه النوعية من السياسيين.