المصدر: ليبانون ديبايت
الإنطباع الراسخ لدى مجموعة لا بأس بها من رجال الأمن، تُفيّد بتوغّل إسرائيلي في العمق اللبناني. ليس سراً أن هذا التوغّل بدأ على مراحل وأزمنة متعدّدة، ويُعتقد أن العدو قد بنى “ركيزة أمنية صلبة” في الداخل اللبناني. طبعاً إن تقدير مدى اتساع رقعة هذا التوغّل ومواجهته تبقى من صلاحية “أصحاب الكار”، ولو أن التساهل القضائي الأخير يُعدّ محفّزاً في غالبية الأحيان لنمو مثل هذه الظواهر كالفطر.
يمضي القضاء العسكري في مسار التخفيف من القيود المطبّقة على المشتبه بهم بالتواصل مع العدو الإسرائيلي، أو العملاء اللحديين السابقين. للقضاء العسكري قراءته المنفصلة تماماً عن الواقع، والتي لا نجد تفسيراً لها سوى أنها تجيز خلق “بيئة حاضنة” لمثل هذا الشذوذ الوطني إلى حدّ إباحة السماح بسرد أفكار تبريرية لأي تواصل محتمل. في المقابل، تزداد عمليات الإختراق الأمني الإسرائيلي وصولاً لاعتماد “خطوط عسكرية” لم تكن في الحسبان أو غير مألوفة سابقاً، أقلّه بالقدر الذي تعيشه اليوم، وهذا الإنطباع تولّد نتيجة تحليلات أمنية متعددة تقرأ في باطن العقل الأمني الإسرائيلي.
غالباً ما كان التوغّل الأمني الإسرائيلي يعتمد الطرق الكلاسيكية في العمل الإستخباراتي، بمعنى إدخال مجموعات عمل منظّمة أو تجنيد وتدريب “عملاء” للقيام بمهام خاصة، لكن، وبحكم المتغيرات التي طرأت بمجرى الزمن، كان لا بدّ من إدخال تعديلات تطال حتى المفاهيم العملانية للمهام الإستخباراتية المعادية. تجسّد ذلك نظرياً من خلال طروحات عُرضت على النقاش، وفي أكثر من مناسبة، على طاولات الندوات والمؤتمرات الصهيونية ذات المنحى الأمني والبحث الأمني والإستخباراتي المستقبلي، ويبدو أن تلك الأفكار قد سلكت طريقها نحو التنفيذ.
ومؤخراً اتّسعت رقعة نشاطات التجنيد في ظل تأسيس وحدة إستخباراتية إسرائيلية مكلّفة بهذا الصدد، وقد ابتكر العدو أسلوباً جديداً للتجنيد كأن يتمّ عبر محاولة اختراق صحافيين بصحافيين معادين تحت ذريعة التعاون وتبادل المعلومات، وغالباً كان يتم استهداف صحافيين وناشطين من مظهّري العداء لـ”حزب الله”، أو في مرحلة أخرى اللجوء إلى خدمات لبنانيين مقيمين في الداخل المحتل تولوا إيهام أهدافهم أنهم في صدد البحث عن قضايا إنسانية في الداخل اللبناني مثل قضايا لمّ شمل الأسرة وسوى ذلك.
إنفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020 مثّل عملياً فرصة ذهبية وممكنة للشروع بتسلّل “العقل الأمني المستجدّ” إلى البيئة اللبنانية وعلى نحوٍ واسع النطاق، وبالتالي، توفير ظروف انتقاله من مرحلة أمنية إلى أخرى ضمن سلسلة أتاحت، وفي غمرة ازدحام اللجوء إلى المساعدة، أن تتسلّل جمعيات ومنظمات واشخاص برداء خدماتي محض إلى العمق اللبناني، لكن بأهداف أبعد من ذلك.
تعدّ منظمة IFA الإسرائيلية واجهة الجمعيات المعادية التي كُشفَ النقاب عنها مؤخراً في مجال التورّط باختراق المجتمع اللبناني على شكل تقديم الإغاثة لمتضرّري إنفجار المرفأ. المنظمة التي لا تخفي أنها تُمارس “النشاط السّري” ضمن الدول العربية التي لا تقيم مُعاهدات مع إسرائيل، لم تتردّد في الاضاءة على أدوار مارستها في الداخل اللبناني ونشاطها ضمن المجال الإغاثي بعد كارثة الصيف الماضي. صحيح أن المنظمة لم ترشد سائليها إلى الأسلوب أو الطريقة المتّبعة في الوصول إلى المجتمع وتقديم مساعدات عينية زوداً عن إنفجار، لكن مما لا لبس فيه، أن أحد العناصر التي أتاحت “حرية التنقل” للمنظمة، تمثّل في غياب التدقيق الأمني والجنائي حول “المتسلّلين” تحت جناح الأعمال الإغاثية إلى العمق اللبناني، وعدم وجود “داتا” حولهم بالإضافة إلى وجود تراخي، سياسي ومجتمعي، مقصود وسط انحلال ثقافة معاداة العدو لدى شرائح إجتماعية محددة، والأفظع أن التسلّل لم يكن ليحصل لولا اتفاقيات توأمة وشراكة معقودة بين المنظمة الإسرائيلية ومنظمات دولية أخرى تقيم بدورها إتفاقيات تعاون مع “شقيقات” لها على المستوى اللبناني.
جانب آخر من عمليات التسلّل إلى الداخل اللبناني يتم تحت عناوين إغاثية عريضة، يتمثّل بالإعتماد على أدوار بعض الأفراد. صودفَ قبل فترة وجيزة أن أُلقيَ القبض على عنصر أمني برتبة عريف أول من عديد أحد الأجهزة، وهو يتواصل مع سيدة أرملة لأحد ضبّاط ميليشيا العميل أنطوان لحد المنحلّة وتقيم في إحدى المستعمرات الإسرائيلية. كما جرت العادة، برّر العنصر التواصل بأنه يتصل بمعرفة عائلية سابقة وبـ”شغف” عاطفي والبحث عن علاقة غرامية، وهي أسباب تمثل عادة شباكاً للإيقاع بالمستهدفين وتحويلهم إلى أدوات أمنية.
في إطار استعراضه لإفادته، ذكر بأنه كان يتلقى أموالاً مصدرها “أرملة العميل” عبر سيدة أخرى مقيمة داخل الأراضي اللبنانية، مبرّراً ذلك بـ”الحاجة والعوز”. إستُدعيت السيدة إلى التحقيق ليتبيّن أنها حصلت على الأموال لصالح العنصر الأمني من قبل رجل دين (م.ط.م. الحاج) يتردّد إلى الأراضي المحتلة بصورة دورية دائمة. تم استدعاء رجل الدين بتاريخ 17 حزيران الجاري للإستماع إلى إفادته، ليبرّر تردّده الدائم إلى اتفاقية الهدنة الموقّعة عام 1944 والتي تنصّ على أنه يحق لمطران صور والأراضي المقدسة بالدخول إلى الأراضي المحتلة لمتابعة شؤون رعاياه وتفقدهم وزيارتهم، ليكشف في سياق التحقيق أنه “ينقل الأموال والرسائل إلى اللاجئين الفلسطينيين الذين لديهم أهل في الأراضي المحتلة”.
محط الإنتباه في كل القضية، كان أن المطران ذكر أن “أمر نقل الأموال والمساعدات ازداد بعد انفجار مرفأ بيروت”، وهذا يعطي إنطباعاً حول مدى الإهتمام بالقضية في الداخل المحتل، كاشفاً أن “اتفاقاً عقد بين المطارنة في لبنان، على أن تتولى الكنيسة في الداخل (أبرشية حيفا والنيابة البطريركية في القدس) على جمع الأموال من المقيمين داخل الأراضي المحتلة عبر التبرعات لينقلها الى الكنائس والأفراد، على أن يصار إلى توزيعها على المحتاجين”. ولم يتردّد رجل الدين في ذكر أنه “أوصل هذه الأموال إلى الكنائس المارونية والكاثوليكية والأرثوذكسية، والى إحدى المؤسّسات الإغاثية المشهورة جداً”.
عملياً، تتلخّص المشكلة في اعتقاد المطران بأنه يقوم بعمل إنساني. لقد تحوّل رجل الدين المذكور إلى ناقل للأموال من الأراضي المحتلة إلى بيروت، من دون التدقيق في مصادرها ومغيّباً احتمال دخول أطراف أخرى كمساهمين تماماً كالمنظمة المذكورة أعلاه، أو احتمال أن يكون إرسال الأموال لأشخاص يتّصل بظروف أمنية ما. الأمر الآخر، أن الإتفاقية، وبحسب معنيين، لا تجيز لأي رجل دين أن يتصرّف من تلقاء نفسه ومن خارج الأصول، بمعنى سعيه إلى تبادل أو نقل الأموال من دولة عدوة إنما كان من المفترض حصر مهامه بالشقّ الرعوي. من هنا، يُمكن فتح أكثر من قوص لاستبيان نماذج من الخطط الاسرائيلية.