علي نور الدين – اساس ميديا
عاد دولار السوق السوداء إلى مستويات راوحت مساء أمس الأحد ما بين 17,550 و17,650 ليرة للدولار الواحد، بعدما لامس قبل يوم واحد حدود 18,000 ليرة. لكنّ هذا الانخفاض النسبي والمحدود لن يكون سوى استراحة صغيرة في مسار هبوط سعر صرف الليرة في السوق السوداء، خصوصاً أن لا شيء تغيّر في توازنات العرض والطلب، التي أشعلت موجة التراجع الأخيرة في قيمة الليرة مقابل الدولار. باختصار، ستستمرّ ثلاثة عوامل بالضغط على سعر صرف الليرة طوال الأسابيع القادمة بالطريقة نفسها، ولا يبدو أنّ شيئاً ما سيعكس هذا المسار الذي بات يقود البلاد إلى النموذج الفنزويلي، أي إلى نموذج الانهيار السريع وغير المضبوط في سعر صرف العملة الوطنيّة.
– وفقاً لعدّة مصادر من داخل كبرى شركات الصيرفة، تبدأ هذه العوامل من كميّة الطلب الكبيرة، التي استجدّت خلال الأسابيع الماضية، على دولار السوق السوداء، من قبل عدة قطاعات كانت تعتمد على مصرف لبنان سابقاً للحصول على الدولار المدعوم من احتياطاته. وبعد توقّف مصرف لبنان عن تزويد هذه الشركات بالدولار، اتّجهت إلى السوق السوداء طلباً للدولار، مساهمةً في دفع سعر صرف الليرة إلى الانخفاض.
وكان مصرف لبنان قد توقّف رسمياً عن تمرير معاملات دعم استيراد الكثير من أصناف الأدوية والمستلزمات الطبيّة، بالإضافة إلى الموادّ الغذائيّة التي كانت مشمولة بالسلّة الغذائيّة سابقاً، دافعاً أصحاب الشركات المستورِدة إلى طلب الدولار من السوق مباشرة لتسديد ثمن السلع وتسعيرها بالدولار النقدي. وعلى الرغم من أنّ مصرف لبنان حاول إحالة جزء من هذا الطلب على الدولار إلى منصّته المستحدثة للتداول بالعملات الأجنبيّة، ظلّت كميّة الدولارات، التي قدّمتها هذه المنصّة، محدودةً مقارنة بالطلب الذي انتقل إلى السوق السوداء.
– تضيف مصادر شركات الصيرفة عاملاً ثانياً أشعل الطلب على دولار السوق، وهو اقتراب المهلة الممنوحة للمصارف لتطبيق التعميم 158 في بداية الشهر المقبل. فبموجب هذا التعميم، يُفترض أن تتيح المصارف سحوبات نقديّة شهريّة لعملائها، نصفها بالدولار النقدي، ويُفترض أن تموّل المصارف نصف السحوبات بالدولار النقدي من حساباتها الخاصّة، ومن بينها حساباتها لدى المصارف المراسلة التي أودعت لديها سيولةً في إطار عمليّة إعادة الرسملة التي فرضها سابقاً مصرف لبنان.
لكنّ نسبة كبيرة من المصارف اللبنانيّة لم تتمكّن من إيداع ما يكفي من سيولة في حساباتها في الخارج لتمويل هذه السحوبات، فما كان منها إلّا أن اندفعت مستميتةً خلال الأسابيع الماضية لامتصاص ما يكفي من دولارات من السوق السوداء للحصول على هذه السيولة. وفي غالبيّة الحالات،
تمتصّ الشركات هذه الدولارات مقابل شيكات مصرفيّة بالدولار المحلّي (أو اللولار)،
تبلغ قيمتها أضعاف الدولارات النقديّة التي تحصل عليها المصارف.
وهكذا أضافت المصارف سبباً آخر لشحّ الدولارات في السوق الموازية، مضاعفةً من الضغط على سعر صرف الليرة.
العامل الثالث يتعلق بفقدان الثقة التامّ بمستقبل الليرة اللبنانيّة،
خصوصاً بعد تعثّر عدّة معالجات عمل عليها كلٌّ من مصرف لبنان والدولة أخيراً، وكانت الأسواق تترقّب أثرها على سعر الصرف
والوضع النقدي. فمنصّة مصرف لبنان، التي كان يُفترض أن تتحوّل إلى منصّة تداول بالعملات الأجنبيّة
تحلّ مكان السوق السوداء وتسمح بتدخّل مصرف لبنان في تحديد سعر الصرف،
تحوّلت إلى منصّة لبيع الدولار المدعوم من احتياطات المصرف المركزي، من دون أن تملك أيّ أثر فعلي
على مستوى سعر صرف السوق السوداء. إلى هذا، ما زال رفع الدعم بشكل تدريجيّ والانتقال نحو البطاقة التمويليّة متعثّرين،
بسبب غياب مصادر تمويل البطاقة واتجاه مصرف لبنان إلى استعمال المزيد من احتياطاته
في دعم استيراد المحروقات، ولو وفق سعر صرف أعلى.
ستلقي هذه العوامل الثلاثة المستجدّة بظلالها على سعر صرف الليرة في السوق السوداء طوال الأسابيع المقبلة،
خصوصاً أنّ المصارف ستستمرّ بامتصاص دولارات السوق الموازية مع بدء تطبيق التعميم 158،
في حين أنّ رفع الدعم عن المزيد من أصناف الموادّ المدعومة سيزيد من طلب المستوردين على دولارات السوق السوداء.
أمّا تعقّد المشهد على مستوى تشكيل الحكومة، وتخبّط جميع المعالجات التي يعمل عليها المجلس النيابي،
فستزيد من انعدام الثقة بمستقبل الوضعين المالي والنقدي في البلاد.
هكذا تنضم هذه العوامل الثلاثة إلى العوامل الطويلة الأمد، التي كانت تضغط على سعر الصرف منذ بداية الأزمة،
سواء منها التوسّع في طبع النقد لتمويل العجز في ميزانيّة الدولة اللبنانيّة،
أو الاستمرار في طبعه لتمويل السحوبات من المصارف وفقاً لبنود التعميم 151،
أو لإقراض المصرف المركزي الدولةَ اللبنانيّةَ لتسديد ديونها المستحقّة للمصارف بالليرة اللبنانيّة.
وبين الاستمرار في زيادة الطلب على الدولار عبر خلق النقد بالليرة،
وزيادة شحّ الدولار بسبب العوامل الثلاثة المستجدّة،
لا يوجد ما يوحي بأنّ البلاد ستخرج من أتون تدهور سعر الصرف الذي تشهده اليوم.
لكلّ هذه الأسباب لا أمل في الخروج من الوضع الراهن من دون خطة واضحة للمعالجة تأخذ بعين الاعتبار
كيفيّة استعادة التدفّقات الماليّة بالعملة الصعبة إلى النظام المالي أوّلاً،
وإعادة توحيد أسعار الصرف بشكل مضبوط ووفقاً لمسار متدرّج يضعه المصرف المركزي ثانياً. وتحتاج المسألتان
قبل كل شيء، إلى رؤية واضحة لكيفيّة التعامل مع الصورة الأوسع للأزمة،
وتحديداً الجانب المتعلّق بخسائر النظام المصرفي وتعثّر الدولة في سداد ديونها. بالتأكيد،
لا يوجد اليوم أيّ رؤية كهذه، ولا يوجد أساساً مَن يستطيع أن يضع هذا النوع من الخطط.