المصدر: الأخبار
في لبنان، كما في بقية العالم، تكون المعادلة قاسية جداً عندما تجد عصابات ومتخلّفين ونصّابين وعملاء يتولّون شؤون الدولة بعدما حصلوا طوعاً أو غصباً، على تفويض الناس في الانتخابات، وصاروا يتولّون مقاليد السلطة. وإذا كانت الاعتبارات الداخلية للدول حاسمة، لكنها ليست العنصر الوحيد المحدّد لطريقة إدارة البلاد. ما يميّزنا سلباً عن بقية دول العالم، أننا نقيم وزناً زائداً للخارج يجعل القيّمين على أمور بلادنا يتصرفون بدونية مفرطة أمام الآتين من خلف البحار. وهي دونية تظهر للأسف ليس عند أرباب الإقطاع الاجتماعي أو السياسي أو المالي، بل حتى عند فئات غير قليلة من الأحزاب والنقابات والأطر الأهلية.
ما حصل في لقاء رئيس الحكومة حسان دياب مع السفراء المعتمدين قبل أيام كان نافراً جداً. المشكلة ليست في الوقاحة التي ميّزت تصرف سفيرتَي أميركا وفرنسا. بل ما سبق ذلك من سلوك سفير مملكة الصمت والقهر وليد البخاري الذي تصرف مع الحدث وكأنه لا يعنيه، ولا يحتاج منه إلى حضور أو اعتذار، وهو وإن تذرّع بالسفر، إلا أنه لم يكن ليحضر إلا حيث يجد من يقدم له الطاعة كما فعل حضور لقاء بكركي المُخجل.
لكنّ مشكلة اللقاء نفسه تعود أصلاً إلى تصرف رئيس الحكومة وفريقه، وإلى خطابه وطريقة تفاعله في النقاشات مع الحضور. يقول أحد الحاضرين إن السفير الكويتي ربما حاول احتواء الموقف بأن ردّ بدبلوماسية على كلام رئيس الحكومة، لكن من دون فوقية ممثل الرجل الأبيض، عندما قال لدياب: «لا أعتقد أنك تقصد ما تقوله!». ذلك أن الجميع كان مذهولاً في أن رئيس الحكومة دعاهم ليشرح لهم أحوال البلاد، فما كان منه إلا أن عمد إلى توبيخهم من دون الإشارة إلى دور الطبقة الحاكمة سابقاً وحاضراً في الأزمة الكبيرة التي يعاني منها لبنان.
عملياً، كان السفير الكويتي يوافق ضمناً على أي اعتراض يصدر عن أي سفير حاضر على اتهام رئيس الحكومة للعالم بفرض حصار تسبّب بالأزمة التي يواجهها لبنان، ويتناسى أو يتجاهل الأسباب الداخلية للأزمة. وهو ما كان فعلاً أمراً لافتاً في خطاب رئيس الحكومة الذي يبدو أنه يعيش مرحلة «الخوف» من اعتقاله أو سجنه أو نفيه من قبل أي حكم جديد يحضر إلى مقاعد السلطة. ولهذا تراه يحمّل كل القوى السياسية القادرة مسؤولية الخراب، لكنه لا ينتقدها علناً، بل يتجنّب مواجهتها بحجة أنه غير قادر، وأن ما بيده فعَلَه وهو الاستقالة. علماً أن دياب يعرف تمام المعرفة أن بمقدوره القيام بالكثير إن أراد حتى كرئيس حكومة تصريف الأعمال، ولكنّ الرجل رسب في امتحان السلطة، حتى بات المدافعون عن وصوله إلى موقعه يشعرون بالإرباك عندما يتعرض لانتقادات قاسية أمامهم.
لكنْ هل كل ذلك يسمح لممثلي الرجل الأبيض وأتباعهم من بعض عرب الخليج، ممارسة هذه الوقاحة في طريقة التعامل، من امتناع السفير السعودي عن الحضور، بينما كان يتفنّن في تعليم جماعة السيادة والحرية والاستقلال جلسة القرفصاء في خيمته؟ ثم كيف لهذا السفير أن يحترم دولة، وهو يرى الكنيسة المارونية تعود إلى دروس القرون الوسطى في خدمة البلاط مهما كانت هوية شاغله؟ وكيف يشعر بالقلق، وهو يرى من أذلّتهم بلاده، مثل جماعة سعد الحريري لا يتوقفون عن البكاء وطلب الغفران عند باب السفارة؟
لكن لندع البخاري جانباً، ولنذهب إلى أصل المشكلة. إلى أولئك الغربيين المتحدّثين بالأصول واللياقات ورجال الدولة والقواعد والتراتبية واحترام السيادة، لنتوجه إلى سفيرتَي فرنسا وأميركا، اللتين تتصرفان بفوقية مُذهلة، توجب تقريعهما كلّما دعت الحاجة، وتوجب تذكيرهما بأنهما تمثلان أعلى درجات العنصرية في السلوك العام، وتوجب دعوة الناس العاديين إلى اعتبارهما غير مرغوب في وجودهما بيننا، وإلى ضرورة مقاطعة كل نشاط تقومان به، وإلى التظاهر والاحتجاج العنيف ضدّ كل نشاط تشاركان فيه، وإلى قطع الطريق أمام مواكبهما لا أمام الناس المعتّرين على الطرقات، وإلى مطاردتهما في أيّ مكان عام، وزارة أو إدارة أو نادياً أو مطعماً أو مرفقاً عاماً أو خاصاً أو نشاطاً سياسياً أو ثقافياً، وإلى تقريع كل مَن يتعامل معهما من دون تمييز، سواء كان جهاتٍ رسمية تقبل بهذه الإهانات، أو أحزاباً أو قوى أو جمعيات أو ناشطين أو شخصيات. لأن كل هؤلاء، يتجاهلون حقيقة أنه لولا دعم وتغطية عواصم القهر والإرهاب في العالم، وفي المقدمة منها أميركا وبريطانيا وفرنسا، لما كان لهذه العصابة أن تعيش كلّ هذا الزمن، ولما كان لهذا الإقطاع بوجوه قديمة أو جديدة أن ينتعش أو يتزوّد بطاقة الوجود، ولما كان لهذه العصابة المتحكّمة بالمال العام والخاص أن تبقى على قيد الحياة من دون أوكسيجين الغرب القذر.
في حالة البلهاء دوروثي شيا، أو العنصرية آن غريو، ليس من علاج سوى الدعوة إلى نبذهما كلَّ ساعة وكلَّ دقيقة، وليس من عيب في إبلاغهما بأن عليهما توقّع المتاعب والملاحقة بقصد طردهما متى تيسّر ذلك، والتعامل معهما مثل أيّ مندوب لقوة احتلال وجب طرده… ولو بالقوة!