المصدر: الأخبار
الأسباب المعلَنة لإلغاء الشهادة المتوسطة (البريفيه) واهية. في الواقع، المشكلة لا تكمن في تمويل الاستحقاق ولا حتى في عزوف المعلمين عن مراقبة الامتحانات، بل ربّما أتت الضغوط السياسية لإنقاذ وزارة التربية من فشل في تعليم التلامذة، وإيجاد بدائل عن التعليم الحضوري في التعليم عن بعد. والدليل أن التجربة التي اختبرتها الوزارة في 700 مدرسة – مركز لإجراء امتحانات تمهيدية (أو ما يسمى بامتحانات بيضاء للبريفيه) كانت غير مشجّعة لجهة النتائج المتدنّية التي نالها التلامذة، رغم المناهج المخفّفة جداً. إذ أشارت مصادر بعض المعلمين والمديرين إلى أن نسبة قليلة جداً من التلامذة أجابت على الأسئلة، وقسماً لا بأس به منهم قدّم ورقة بيضاء، وقسماً ثالثاً قاطع الاستحقاق ولم يحضر إلى مركز الامتحانات، وآخرين كانت نتائجهم مفاجئة جداً.
الوزارة لم تصدِر أيّ بيان أو تقرير حول النتائج أو تقييمها. فهي، في العادة، تخفي النتائج السلبية، أو تزيّفها لاستجداء دعم مزعوم أو ادّعاء تفوّق ما لتسجيل نجاحات وهمية. لكن الوقائع تشير إلى أنه لو جرت الامتحانات، لأتت النتائج كارثية، ولفضحت ضحالة خطط الوزارة ومحاولاتها الفاشلة من خلال امتحانات رسمية شكلية ينجح فيها غالبية المرشّحين، رغم أنهم لا يملكون المهارات والمعارف لاجتياز المرحلة المتوسّطة، بل إن مهاراتهم ومعارفهم لا تتجاوز الصف السابع أساسي في أحسن الأحوال!
إذاً، صدر قرار إلغاء «البريفيه» بعد الامتحانات التمهيديّة، ووضوح الكارثة التعليمية أمام وزير التربية طارق المجذوب وفريقه وعدم قدرتهم على إخفائها. علماً بأنه كان يفترض بفريقه التربوي الاستشاري توقّع هذه النتائج منذ بداية العام الدراسي، لكن الإحصاءات والمعطيات التي تصدر عن الوزارة غالباً ما تكون مزوّرة، أو معدّلة لأسباب سياسية، والمشكلة أن فريق الوزارة يصدّقها ويسوّق لها لغايات سياسية، أو يعتبر الإنجاز الإداري إنجازاً تربوياً.
ولتشريح النتائج نعود إلى تقرير للبنك الدولي حول ما سُمي «فقر التعلّم»، والذي نُشر أخيراً بعنوان «النهوض بتعليم اللغة العربية وتعلُّمها – مسار للحدّ من فقر التعلُّم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا». وقد جاء في ملخص التقرير أن «59 في المئة من الأطفال في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعانون من فقر التعلم، بحيث لا يمكنهم في سن العاشرة (الصف الخامس أساسي) قراءة نصّ مناسب لأعمارهم وفهمه. وترتفع هذه النسبة إلى 63 في المئة كمعدل في بلدان المنطقة، المنخفضة والمتوسطة الدخل. ويؤدّي عدم القدرة على القراءة، بفهم، في سن العاشرة إلى قصور في تعلُّم معظم الأطفال في المنطقة وإعاقة تقدُّم بلدانها في مجال تكوين رأس المال البشري. ومن شأن تحسين تعليم اللغة العربية وتعلُّمها أن يعزز مجمل نواتج التعلُّم. ويجدر بالحكومات أن تهتم بذلك اهتماماً شديداً لتحسين نواتج عملية التعليم بشكل عام، ولتراكم رأس المال البشري على المدى الأطول».
هذه النسبة ذاتها كانت قبل 4 سنوات (يعود المسح في التقرير إلى عام 2017 ثم اكتمل ونُشر بعد إضافات وتعديلات عدة في عام 2021). بمعنى آخر، فإن التلامذة الذين كانوا يعانون من فقر التعلّم في 2017 لم تتم معالجة مشاكلهم التعلّمية خلال السنتين 2018 و2019، وحتماً لم يكتسبوا المهارات والمعارف المطلوبة في سنتَي الحجر الصحي 2020 و2021، بل نسوا ما سبق وتعلموه. واقعياً لم يكتسب التلامذة إلا قدراً قليلاً من المهارات والمعارف خلال السنوات الأربع السابقة. فمن كان في عام 2017 لا يتقن القراءة وفهم النصوص انتقل إلى البريفيه اليوم وهو لا زال لا يتقن القراءة والفهم. وبطبيعة الحال، ستتأثر المجالات العلمية الأخرى بهذا العجز.
وإذا اعتمدنا تعريف البنك الدولي لـ «فقر التعلّم»، يمكن الجزم أن التلامذة لم يكتسبوا خلال السنتين الماضيتين المهارات المطلوبة لفئتهم العمرية، ولم يكتسب معظمهم المهارات القرائية بسبب فشل برامج التعليم عن بعد. وبالتالي، صار متوسّط عمر «فقر التعلّم» 12 عاماً بدلاً من 10 سنوات، وهم يتحضرون بعد سنتين لاجتياز المرحلة المتوسّطة إلى الثانوية. ويمكن القول إن نسبة التلامذة في لبنان الذين يعانون من «فقر التعلم» تتجاوز معدل 59 في المئة لمنطقة الشرق الأوسط وربما تلامس 70% بعد جائحة كورونا، وأن نسبة 59 في المئة ممن لا يستطيعون قراءة نصّ صغير في الصفّ الخامس أساسي وفهمه انتقلت إلى الصف السابع أساسي تلقائيّاً بسبب فشل التعليم عن بعد.
ولنكون منصفين، يسري «فقر التعلّم» على القطاعَين التعليميَّين الرسمي والخاص، ما عدا بعض إدارات المدارس والمعلمين التي قدمت، بمبادرات فردية وبمسؤولية عالية، أفضل الممكن في ظلّ هذه الظروف.
رغم كلّ ذلك، لا يزال البنك الدولي يضع بين يدي وزارة التربية أموالاً كثيرة لإعادة تدوير المناهج والمدارس ونظام التعليم وغيره، من دون أن يلتفت إلى اختزال مؤسسات عريقة مثل المركز التربوي للبحوث والإنماء بأشخاص، وتفريغها من كوادرها وإرثها وتعطيلها بالسياسة، وتغييب الكفاءات عنها وإفقادها إمكانية العمل. وها هو اليوم، رغم ما جاء في تقريره، يُنفق المزيد على فريق وزاري عاجز عن رؤية واستشراف المعضلات والثغرات وإيجاد حلول لها. ألم يحِن الوقت لوقف هذا الهدر واستبداله برؤية استشرافية علمية وتربوية قبل فقدان الإرث التربوي نهائياً؟