المصدر: سامي كليب
يجب أن يكون المرء ساذجاً الى أٌقصى حد، كي يصدّق أن تفجيرَ مرفأ بيروت كان بفعل خطأ حتى ولو أن الإهمال جريمة. وساذجٌ أيضا من يعتقد بأن استغلال غضب الناس الشرفاء الذين انتفضوا في 17 تشرين 2019 كان بريئا، وأن ضربَ الاقتصاد اللبناني وقتل الليرة ونهب أموال المودعين، كانوا مجرّد أخطاء في الخطط والهندسات المالية.
يجب أن يكون المرءُ ساذجا الى أقصى حد كذلك، ليصدّق أن الانهيار اللبناني الكبير بدأ صُدفةً مع بداية خروج سورية من حربها بتوازنات عسكرية جديدة مالت بقوة صوب المحور الذي تقوده إيران بالتحالف مع روسيا والتقارب مع الصين.
ولأن كل ذلك ليس بالصدفة، فإن ما كان مطلوباً ما زال مطلوباً، وأن لا انفراجاتٍ حقيقة ولا حلول قريبة وأن معركة الانتخابات التي بدأت باكرا ستُعقّد الأمور أكثر، وستكون المعلومات والتحركات المُتعلّقة بتفجير المرفأ جسرا للصراع المحلي والإقليمي والدولي على هذه الانتخابات بغية قلب الموازين. فحتى لو تمت تسميةُ رئيس حكومة وحصل التشكيلُ الحُكومي في ما بقي من عهد الرئيس ميشال عون، فإن الحلول ستبقى مؤقتة وترقيعية كمن يداوي السرطان بحبوب الأسبيرين.
نحن في مرحلةِ إعادة تكوين النظام، كما يقول دبلوماسي عربي عريق، وهي مرحلةُ قائمةٌ بين انهيار إدارة الدولة، وبحث الأطراف الداخلية عن تثبيت مكتسباتها النيابية وسط احتمالات بأن يكون الطرف المسيحي هو المُرشّح أكثر من غيره لاختراقات من قبل المُستقلّين.
لبنان غارقٌ حاليا في صراع محورين، يتقاربان قليلا (المفاوضات) ويتنافران معظم الوقت، ولذلك فإن قضية تفجير المرفأ التي بقيت حتى الآن لُغزاً ستكون عاملاً قابلا للتفجير السياسي والأمني والاجتماعي في أي وقت.
لا شك أن ثمة معلوماتٍ ستظهر بعد حين (لو أريد لها أن تظهر) تقلب الكثير من المشهد. ومن هذه المعلومات ما يُحكى عن تحقيق استقصائي عربي دولي قد يؤكد ان آلة التلحيم التي قيل إن شراراتِها هي التي أدّت الى اندلاع الحريق الذي فجّر نيترات الأمونيوم، ليست في الواقع من النوع الذي يُحدث شرارات، لو تأكد ذلك، فقد ينقلب التحقيق رأسا على عقب. ومن المعلومات أيضا ما يتسرّب عن احتمال أن تكون بعضُ الآثار قد أُزيلت بعيد التفجير، ومنها ما يسأل من أين أتت نيترات الأمونيوم والى أين كانت متوجّهة؟ وهل ثمة دورٌ لإسرائيل في تفجير النيترات لإحراج ناقليها؟ وكيف يُمكن التأكد من ذلك اذا كانت العمليةُ دقيقة جدا وتحتاج الى تعاون دولي ضخم لم يحصل حتى الآن؟
قضية المرفأ تقف حاليا أمام منعطف كبير الحساسية، فاذا كان الجانب المُريب منها تمثل بداية، في مماطلة الدول الكُبرى التي كانت أول من وصل الى المرفأ بعد التفجير ( أميركا وبريطانيا وفرنسا) في التجاوب مع طلبات وزارة العدل لتقديم المعلومات الاستخبارية ونتائج الأقمار الصناعية للبنان، واذا كان قد قيل إن القمر الصناعي آنذاك لم يكن ( ولغريب الصُدف) موجّها صوب لبنان، وقيل أيضا ان ثمة بارجة إسرائيلية كانت في البحر مقابل الشواطيء اللبنانية، فإن ثمة 3 احتمالات اليوم : أولهما أن تظهر معلومات استخبارية تُشير الى تورط مسؤولين أمنيين وسياسيين قريبين من محور الحزب وسوريا، وثانيهما أن يذهب التحقيق صوب ” الخطأ”، وثالثهما أن يكون في الأمر عدواناً خارجياً.
إذا سار التحقيق ضد الحزب، فهذا يعني الدخول في متاهات خطيرة من التعقيدات الكُبرى التي ظهرت بواكيرُها مع رفض رفع الحصانة أو رفض المثول أمام المحقق العدلي على اعتبار أن الأمر يتجه الى التسييس وان ثمة من يدفع بالتحقيق ليكون دوليا كما حصل بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. واذا ذهب التحقيق صوب الخطأ، فهو يعني أن دور القاضي طارق البيطار الموسوم بصفات الصلابة والنزاهة، والذي يقال انه يستعد لاستصدار لائحة اتهامية ثانية، مُرشّحٌ للانتهاء لانتفاء الصلاحية القضائية، فكيف ستكون ردةُ فعل عائلات الشهداء والشارع اللبناني؟ وهل يتحول بيطار من أبرز القضاة اليوم الى ضحية لو نُزع التحقيق من يده بذريعة انتفاء الصلاحية لاحقا؟
من المُفترض أن تجمع اللائحتان الاتهاميتان الأولى والثانية مروحة من الأسماء المهمة، كما أن صلاحية القاضي تخوّله حاليا القبض على من يشاء ممن يستمع الى شهادتهم ( وربما كان سيفعل ذلك مؤخراً كما تردّد) ولذلك اُقيمت حصونٌ حول بعض المُستدعين لعدم تكرار تجربة الضباط الأربعة بعد اغتيال الحريري.
يُشار الى أن المادة 189 تقول بوضوح:” تُعدّ الجريمة مقصودة وإن تجاوزت النتيجة الجرمية الناشئة عن الفعل أو عدم الفعل قصد الفاعل اذا كان قد توقّع حصولها فقبل المخاطرة”، وهي بالتالي تسمح للمحقق العدلي بالتوسع في تحقيقه ليطال كل من كان مسؤولا وعرف حجم الخطر ولم يُقدم على شيء لوقفه.
مهما كانت اتجاهات التحقيق، فإن استغلالها انتخابيا حاصلٌ لا محالة، وهنا ثمة اتجاهان، يُريد أحدهما تغيير جزء كبير من الشكل الحالي للنظام، ويعمل الجزء الآخر على الإطاحة بالأغلبية النيابية الحالية والإتيان بغالبية أخرى تساهم في تعديل المشهد السياسي اللبناني برمّته واضعاف المحور الذي ينتمي اليه حزب الله.
ثمة ضغوط وإغراءات دولية وعربية كثيرة في هذا السياق، وهو ما يحاول محور الحزب الالتفاف عليه بالتحذير مُسبقا من ” تسييس” تحقيقات المرفأ والمطالبة بكشف المعلومات للناس (استباقاً لما قد يظهر من معلومات أخرى يعتبرها الحزب وحلفاؤه موجّهة ضدهم).
يقاربُ المشهدُ الى حدٍ ما، ذاك الذي شهدته الساحةُ اللبنانية بعيد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، يقاربُه في بعده المحلي، من خلال اصطفافات سياسية واضحة ومنقسمة بين محورين، ويقاربُه في بعده الدولي من خلال الضغط لإجراء الانتخابات في موعدها وتوجيه التحقيق في قضية المرفأ الى التدويل، والشروع فورا بتشكيل الحكومة والإصلاحات.
بين ذكرى جريمة تفجير مرفأ بيروت، والاستعداد للانتخابات المُقبلة، وضبابية المشهد الدولي، لا شيء يُبشّر بأن أمورَ لُبنان في الأشهر المُقبلة ستتجه الى انفراجات حقيقية، ولذلك نُلاحظُ نشاطاً دوليا، هدفُه الاتفاق فقط على حزمة مساعدات إنسانية واجتماعية بغية ضبط الانهيار وعدم انزلاقه الى ما لا تُحمد عُقباه.
معروف أنه حين ينحصر النشاط الدولي بمثل هذه المُساعدات، فهذا يعني أننا أمام أزمة ستطول وقد تتفجّر أكثر.