زيزي إسطفان – نداء الوطن
ما زال اللبنانيون يذكرون جيداً تلك الفضيحة التي أثارها وزير الصحة العامة في حكومة الرئيس تمام سلام آنذاك وائل أبو فاعور، حين أبلغ اللبنانيين بواقعهم الغذائي قائلاً ” أنتم تأكلون خ..” بعدما قامت الوزارة بفضح عشرات المؤسسات التي تقدم أغذية فاسدة. حينها كان البلد بألف خير وكهرباؤه بمصدريها الرسمي والخاص مؤمنة 2424 والليرة في عزّ قدرتها الشرائية ورغم ذلك شهد البلد ما شهده من فوضى غذائية فكيف بالحري وضع سلامة الغذاء اليوم حيث ساعات تقنين الكهرباء تجاوزت العشرين ساعة وسعر المواد الغذائية نار؟
منذ العام 2014 رفع مركز Knowlede to Policy التابع لكلية العلوم الصحية في الجامعة الأميركية مذكرة حول الحاجة الى نظام فعّال لضمان سلامة الغذاء في لبنان ولا سيما أن القوانين قديمة وبحاجة إلى تحديث وأشارت الدراسة الى أن هناك تسع جهات معنية بحوكمة سلامة الغذاء والأطعمة في لبنان، مع وجود الكثير من التقاطعات والازدواجية في مهامها ومسؤولياتها مع غياب المحاسبة والمسؤولية، كما إن ممارسات السلامة الغذائية في لبنان لا تستوفي الشروط والمعايير الدولية والعالمية، ولا تضمن سلامة المستهلكين في لبنان. وأشارت الدراسة حينها الى أن ضعف سلامة الغذاء يتأثر بعوامل عدة منها الاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار، وضعف آليات الرقابة والنقص في كوادر المراقبين والمدققين.
في نظرة الى وضع لبنان اليوم يبدو بوضوح أنه يستوفي كل الشروط المؤاتية لانعدام السلامة الغذائية (رغم صدور قانون سلامة الغذاء في لبنان في العام 2015) وهو واقع بدأ يتجلى من خلال زيادة حالات التسمم التي تشهدها مناطق عدة وإن لم تظهر بعد الى العلن بشكل فاقع.
صيف مسمّم
نهاد وعائلاتها العائدين الى لبنان بعد سنتين من الاغتراب لقضاء ” أحلى صيفية بلبنان” قصدوا مطعماً جبلياً للتنعم بالكبة النية والمشاوي وتوابعها وكل ظنهم أن الأمور لا تزال كما تركوها منذ سنتين… في الظاهر بدا كل شيء كما كان وإن كانت الصحون اصغر والتسعيرة أعلى والتقنين طاول الفاكهة والحلويات… مساء بدأت تظهر عليهم أعراض غير عادية: تعرّق، إسهال وألم في البطن عند البعض وتقيؤ… ازدادت العوارض ليلاً واشتد الإسهال، ارسلت نهاد من يشتري لها علبة “ايموديوم” لتفاجأ باستحالة العثور على الدواء… صباح اليوم التالي وبعد تفاقم حالة الوالد كان لا بد من استشارة الطبيب الذي رجح بأن يكون تسمماً غذائياً نتيجة تناول مواد غير صالحة للاكل.
يؤكد مارون مدير أحد المطاعم في منطقة بدارو لـ”نداء الوطن” أن حالات التسمم التي تحدث نتيجة تناول الطعام خارج البيت أكثر من أن تحصى ولكن يتم التكتم على معظمها منعاً لنسف الموسم السياحي. وازدياد هذه الحالات ليس بالأمر المستغرب نتيجة سببين رئيسيين: الأول هو الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي الذي اثر على التبريد وسرّع عملية فساد المواد الغذائية، اما الثاني فهو اللجوء الى مواد اولية منخفضة السعر والجودة للحفاظ على اسعار مقبولة، فلو أرادت المطاعم المثابرة على النوعية السابقة لكان عليها ضرب الفاتورة أقله بأربعة اضعاف…
توجهنا الى د. رولان واكيم الإختصاصي بالطب الداخلي لنسأله متى تصبح الأطعمة فاسدة وتسبب تسمماً؟ بالنسبة له مع الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي يفسد الكثير من المواد بصورة اسرع ولا سيما اللحوم على انواعها لكن في ظل الغلاء المستشري لا احد مستعد ان يخسر ما عنده من اطعمة حتى ولو فسدت. ويؤكد الطبيب ان سرعة فساد اللحوم تتوافق مع نوعيتها في الاساس. فاللحوم الجيدة والمحفوظة بشكل مدروس لا تتأثر سريعاً بغياب التبريد عنها بخاصة إذا كانت حرارة البراد منخفضة ولا يتم فتحه كثيراً. اما اللحوم الرديئة النوعية التي كانت قبل وصولها الى المطعم مبردة بشكل سيئ او تمت اذابة الثلج عنها وعرضها في البرادات على انها طازجة او اللحوم التي لا يعرف مصدرها او طريقة ذبحها وتخزينها وتلك التي تخضع لعروض كبيرة في السعر لسبب ما، فتلك تفسد سريعاً ما ان يغيب عنها التبريد.
اللحوم على أشكالها…
يؤكد د واكيم ان اللحوم على أنواعها هي أكثر مسببات التسمم الغذائي وذلك ليس فقط لاحتوائها على
بكتيريا يمكن ان تموت اذا ما طهيت اللحمة جيداً، بل لانها تفرز متى فسدت سموماً لا يفيد الطهي في القضاء عليها.
وأخطر ما في الامر أن هذه السموم لا تنفع معها الأدوية المطهرة للمعدة والامعاء
لأن هذه الاخيرة تعالج الالتهابات البكتيرية لا السموم.
ومن أعراض التسمم بالتوكسين الاسهال والاستفراغ اللذان يؤديان الى التجفاف الذي قد يؤدي بدوره الى الموت.
ينصح الطبيب مَنْ تعرض لحالة تسمم غذائي بالتوقف عن تناول الطعام والانتقال الى السوائل الغازية
بعد ازالة الغاز منها وعدم المسارعة الى تناول دواء مطهر للمعدة قد يتم تقيؤه فوراً ولا يصل الى الدم،
مع التنبه بشكل خاص من التجفاف الذي يجب معالجته بالمصل في حال لم تنفع السوائل ولا سيما عند الكبار في السن والاطفال.
نسأل الطبيب المختص اذا كانت اللحوم فقط هي التي تتسبب بتسمم غذائي فيجيبنا بان كل ما هو مواد حية مثل الحليب،
البيض او الكريما يعتبر بيئة مناسبة لنمو البكتيريا ولا سيما حين ترتفع حرارته ويصبح مرتعاً للبكتيريا والسموم.
كذلك يمكن للمياه المستعملة في تحضير الاطعمة او غسلها ان تتسبب بتسمم غذائي او مشاكل معوية وكلنا نعرف
ان الكثير من مياه لبنان ملوثة بالمياه الآسنة ومع انقطاع المياه المتواصل واللجوء الى مياه السيترنات تزداد المشكلة
حدة كون غالبية هذه المياه غير صالحة للاستخدام في المنازل فكيف الحري في المطاعم التي تستعملها لغسل الخضار وتحضير الأطعمة؟
ويضاف الى عاملي الكهرباء والماء عامل ثالث هو النظافة الشخصية حيث يتغاضى العاملون في المطابخ
عن غسل ايديهم بالماء والصابون بشكل دائم ما يساهم في نقل ملوثات عدة الى اطعمة قد تتسبب بتسمم غذائي.
ولكن يقول الطبيب يجب التفريق بين التسمم الغذائي والفيروسات التي تصيب الجهاز الهضمي لا سيما صيفاً وتتسبب بأعراض شبيهة بأعراض التسمم.
في البلدان التي تهتم بالسلامة الغذائية يتم وضع ملصق خاص حساس تجاه الحرارة على كل الأطعمة التي
تحتاج الى تبريد وإذا كانت الحرارة أعلى من المطلوب او تعرض المنتج للحرارة لوقت طويل فإن الملصق يعطي إشارة ضوئية حمراء
تعني انه بات غير صالح للاستعمال. وتوضع هذه الإشارة على كل المواد التي تحتاج الى تبريد
من العصائر الى الحليب والبوظة واللحوم والمواد الغذائية المبردة على أنواعها.
صرخة نقابة المطاعم
ولكن أين لبنان اليوم من إجراءات السلامة هذه، وأين مراقبة الجهات المختصة على تنوعها وتداخل صلاحياتها؟
من يشرف اليوم على تطبيق قانون سلامة الغذاء ويعاقب من يخالفه؟
وسؤال واحد قد يختصر كل هذه الأسئلة: من المسؤول عن صحة المواطنين مقيمين، وزائرين؟
بعضهم يحمّل المطاعم وزر حالات التسمم التي بدأت بالظهور هنا وهناك ليصح المثل القائل”
فوق تقله تقلو”. فهل المطاعم التي انتظرت هذا الموسم الواعد لينتشلها من حالة الموت السريري الذي تعيشه يمكن أن تخاطر بخسارة زبائنها وتعريض حياتهم
وصيتها للخطر؟ أم يصدق من يقول ان المطاعم باتت تسترخص وتساوم على نوعية طعامها لتتمكن
من الحفاظ على أسعار معقولة؟ وبين النقيضين جاءت أزمة تقنين الكهرباء لتكون الضربة القاضية
لاستمرارية المطاعم من جهة وصحة المواطنين من جهة أخرى.
نقابة اصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري رفعت الصوت وأطلقت صرخة بأن القطاع مهدد بالإقفال
إن استمر وضع الكهرباء والمازوت على ما هو عليه. ويقول نائب النقيب السيد خالد نزهة “سمعنا بالامس
عن حالات تسمم ونحن غير مستعدين مطلقاً وضع صحة المواطن في خطر بسبب ما نعانيه من نقص في الكهرباء والمازوت.
لا مجال للعب بصحة المواطن او المساومة على الجودة والنوعية و لكن لسنا وحدنا من يتحمل المسؤولية.
أين وزارة الاقتصاد واجهزة الرقابة المعنية؟ أين البلديات؟ من يؤمن لنا المازوت؟
لا يمكن ترك قطاع منتج هو أكبر قطاع مستثمر في لبنان يشغل الناس ويدفع الضرائب
يعاني من جديد في عز الموسم الذي عقد الآمال عليه”.
“لكن لا حياة لمن تنادي يقول نزهة، لا احد يرد علينا. نحن كنقابة اشتغلنا منذ سنوات على موضوع سلامة الغذاء
وساهمنا في وضع الأسس والقواعد، نحن مؤتمنون على الأمن الغذائي للمواطن وقد اثبتنا ذلك خلال
أزمة كورونا حيث لم تحدث إصابات في المطاعم لأننا لعبنا دورنا على أتم وجه. واليوم نراقب المؤسسات المنضوية
تحت راية النقابة ونعطيهم التوجيهات اللازمة وقد بات معظم المطاعم مزوداً بمولدين
لأن واحداً فقط لم يعد كافياً وباتوا يأتون ببضاعتهم يوماً بيوم تجنباً لفسادها”.
لكن رغم كل إجراءات النقابة تبقى هناك مطاعم خارجة عن القانون في مناطق شعبية او محمية
لا تخضع لسلطة النقابة او توجيهاتها وسناكات شعبية سريعة يمكن ان تضحي بالنوعية من أجل استمراريتها.
“نحن صدّرنا اسماء مطاعمنا ومؤسساتنا الى الخارج” يقول نائب النقيب “
ولا يمكن أن نقع في الخطأ ونغامر بصيتنا، لا احد مستعد لتحمل مسؤولية حالات التسمم لذا يجب التحقيق
في هذه الحالات التي يحكى عنها ومصدرها حتى لا تكون المطاعم او الباتيسري في دائرة الاتهام.
وكلنا نعرف ان الإعلام لا يتساهل مع حالات من هذا النوع وسرعان ما يلقي الضوء عليها”.
لا كهرباء، لا مكيفات، لا تهوئة لا ماكنات لفلترة المياه… وتطول لائحة اللاءات
التي تعاني منها المطاعم لكن ثمة لا وحيدة مضيئة تصر عليها النقابة: لا للتراجع عن الجودة
ومن ليس قادراً على الالتزام بمعاييرها فليقفل مؤسسته…
شعارات مريحة آمنة إذا التزم الكل بها، لكن من يقف حارساً على الكهرباء؟ ومن يراقب الالتزام بالقوانين في زمن الخسائر الكبرى؟