المصدر: بيان
في توقيته وشكله ومضمونه، بدا لافتّا بيان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، تحت عنوان “مصارحة اللبنانيين ببعض الحقائق”، ولعل أعظم هذه الحقائق أنّ المركزي دفع 828 مليون دولار لاستيراد المحروقات خلال شهر تموز فقط، فيما المحروقات مفقودة، أين ذهبت ؟ وهل تجرؤ السلطة على الإجابة؟
أموال اللبنانيين إلى التجار والتهريب
في الشكل نادرًا ما يعتمد الحاكم أسلوب البيانات لقول ما يريد قوله خارج نطاق التعميم الموجّة إلى المصارف، قد يلجأ إلى حديث إعلامي لوكالات أجنبية عادة ما تكون “رويترز”، ولكنّه اختار هذه المرّة بيانًا، بين سطوره الكثير من شدّ الحبال بينه وبين أهل الحل والربط. أمّا في المضمون فأراد سلامة القول، إنّ أموال المركزي التي هي أموال اللبنانيين، تذهب للتهريب، بسكوت مريب من السلطة السياسية التي لم تفعل شيئًا لإيقاف التهريب، لا بل على العكس من ذلك، تدفع باتجاه أن يستنزف مصرف لبنان كلّ أموال اللبنانيين المتبقّية ضمن الإحتياط الإلزامي، وأن ينفق هذه الأموال على الدعم الذي يذهب إلى فئتين، فئة التجار والسوق السوداء، والسوق السوري من خلال التهريب. بدا ذلك في كلامه عن دفعه 828 مليون دولار خلال شهر تموز لاستيراد المحروقات، فيما “لا يزال لبنان يعاني الشح في مادة المازوت، إلى حد فقدانها بالسعر الرسمي المدعوم، ونشوء سوق سوداء يتم من خلالها ابتزاز المواطن في أبسط حقوقه، ومنها الكهرباء عبر المولدات.. بسبب إصرار التجار إما على التهريب وإما على التخزين للبيع في السوق السوداء، وذلك بفعل عدم اتخاذ إجراءات صارمة من المعنيين لوقف معاناة المواطن”.
ضغوطات سياسية على سلامة
في التوقيت، علمنا من مصادر مطّلعة، أنّ ضغوطات سياسية كبيرة مُورست على حاكم مصرف لبنان، من أعلى المراجع، ليستمر في استخدام أموال الودائع المتبقّية حتّى آخر دولار، وعندما رفض، تمّ تهديده بخيارات أمنية. بالتوازي برزت وفق ما سمّته المصادر “أوركسترا منسّقة”، يسأل أصحابها عن احتياط الذهب، وعن مكانه ومصيره. بالظاهر يقدّم هؤلاء أنفسهم على أنّهم رموز إصلاحية اقتصادية، بينما هم في الواقع غير المكشوف، يخدمون قوى سياسية وحزبية، لتحقيق هدفها القاضي باستعمال آخر قرش من الإحتياط الإلزامي، ليس هذا فحسب بل الوصول إلى الذهب للتصرّف به. لأنّ استمرار الدعم بصيغته هذه يتيح لهذه القوى السياسية كسب الوقت، للتمادي في تعطيل تأليف الحكومة
ad
.
في معرض حديثه عن “بيع الدولار الى المستوردين وكيفية توزيعه وإدارته” استخدم الحاكم العبارة التالية “النتائج الكارثية التي ترتبت عن تخلف الدولة منذ 2020 عن سداد ديونها الخارجية”، وهنا يلفت الخبير في الشؤون الإقتصادية والسياسية الدكتور بلال علامة في حديث لـ “لبنان 24” إلى أنّ عملية التوقّف عن الدفع، التي اتخذتها حكومة دياب، هي إفلاس “ولا أحد يقرض مفلسًا، هذه الحقيقة يتجاهلونها ويذهبون نحو تكريس الإستمرار في إنفاق الإحتياطي، على قاعدة لاحقًا نردّ الأموال، وهو أمر لن يتحقق، بدليل أنّ سلفًا بمجموع 6 مليار دولار أُعطيت لمؤسسة كهرباء لبنان، مُشار إليها بشكل واضح في ديوان المحاسبة، وفي تقرير السلف الذي سُلّم إلى الرؤساء الثلاثة. والفضيحة الأكبر أنّ مؤسسة كهرباء لبنان، لم تسدّد سلفة واحدة من كلّ السلف التي حصلت عليها، علمًا أنّه قانونيًا يُمنع على أيّ مؤسسة أن تأخذ سلفة ثانية إذا لم تسوي وضع الأولى. السلفة تُطلب من المؤسسة، تُحول إلى وزارة المال، والأخيرة عندما توافق على منح السلفة، تعيّن قيّمًا عليها ليشرف على كيفية إنفاقها وتسديدها قبل آخر السنة، وإذا لم تُسدّد تُحتسب من الموازنة. ما كان يحصل أنّه عند إعداد الموازنة يتجاهلون أمر السلفة، ويطلبون ما بين مليار ومليار ونصف مليار دولار لكهرباء لبنان، والمفارقة أنّ القيّم على السلف هو مدير عام وزارة المالية، الذي استقال وراح يلقي باللوم على الآخرين”.
لبنان في وضعية السقوط الحر
يضيف علامة، أنّ بيان المركزي الذي أراد من خلاله التأكيد أنّه لم يعد قادرًا على الإستمرار في هذه السياسة، القائمة فقط على استخدام أموال المركزي، وترك القطاعات تنهار واحدة تلو الأخرى، وآخرها القطاع الطبي وفتح السوق للأدوية الإيرانية والباكستانية وغيرها، وإبقاء خطوط التهريب قائمة “كلّ هذه المؤشرات توحي بأّنّ لبنان في وضعية السقوط الحر، بما يعنيه ذلك من فقدان قدرة مؤسسات الدولة على السيطرة. من مؤشراتها في الفترة الأخيرة، غياب الوزارات المعنية لاسيّما وزارات المال والإقتصاد والصحة عن معالجة الأزمات، بحيث أنّ وزير الصحة حمد حسن وفي عز ّأزمة فقدان الدواء غاب عن الأنظار حوالي عشرين يومًا، دون أن يتمكّن من فعل أيّ شيء لحل الأزمة، بل تُركت الناس تتخبّط بحثًا عن الأدوية. أزمة المحروقات استمرت بدورها، ومعها مشاهد الطوابير، كذلك غاب المسؤولون عن تقديم أيّ حلول، في وقت قال لهم الحاكم أنّه دعم استيراد المحروقات بقيمة 600 مليون دولار، بما يزيد عن استهلاك العام الماضي كلّه. ما لا يستطيون إشهاره، أنّه ممنوع على حاكم مصرف لبنان أن يغيّر السعر الرسمي للدولار أي الـ 1500، فهناك الكثير ممن يعتاش على استمرار الدعم الذي يغذّي التهريب، ولو تُرك الأمر للمركزي لغيّر السعر وأوقف التهريب منذ زمن”
قد يعتقد البعض أنّ الحاكم يريد تبرئة نفسه، فيما يرى البعض الآخر أنّه يريد كشف ألاعيب أهل القرار في السلطة، للاستمرار بتغذية السوق السوري على حساب أموال اللبنانيين، لكن بمعزل عن غاية المركزي من بيانه، هناك حقيقة واضحة، مفادها أنّ بعض أحزاب السلطة السياسية تواصل لعبة شراء الوقت، ولو كانت كلفتها كل أموال الإحتياطي، وتقفل باب الحلول السياسية، الأمر الذي من شأنه أن ينعكس مزيدًا من التردّي الإقتصادي والمعيشي، أبرز مظاهر هذه السياسية ستترجم في قفزات إضافية للدولار، “قد يتخطى معها سقف الـ 35 ألف ليرة، ولا شيء عندها يقف مساره التصاعدي” وفق علامة. الخلاصة أنّنا أمام سياسة شيطانية لا تأبه بحال اللبنانيين، ولا تعمل سوى لتحقيق غاياتها الخاصة على حساب كلّ الشعب.