المصدر: المدن
تعود ظاهرة الثياب الأوروبية المستعملة المعروفة بالبالة، إلى تاريخ سابق على بداية الحرب الأهلية في لبنان عام 1975. وكانت لها متاجرها في ضواحي بيروت المكتظة بالمهاجرين الجنوبيين في الخمسينات والستينات.
وها تجارة الثياب المستعملة (البالة) تعود اليوم إلى الازدهار في زمن الأزمات الكبيرة، بعد انقراضها تقريباً في زمن وفرة التسعينات والعشرية الأولى من الألفية الثالثة. هذا بعدما كانت ازدهرت في أوج الأزمة الاقتصادية في الثمانينات.
هو الانهيار المالي منذ عام 2019 ما راح يبعث بحث فئات واسعة من اللبنانيين عن الثياب المستعملة لستر فقرها المستجد. وهكذا صارت البالة مؤشراً اقتصادياً – اجتماعياً على مدى فقر اللبنانيين وعجزهم عن اقتناء الملابس الجديدة المستوردة، مع تحليق سعر صرف الدولار وقضمه القدرة الشرائية للمواطن العادي.
والبالة تشمل الثياب والأحذية والاكسسوارات المستوردة من خارج لبنان، وخصوصاً أوروبا كبلجيكا وألمانيا. ورغم أن البالة كانت حتى فترة قريبة “حكراً” على الفقراء، صارت اليوم موضة الميسورين سابقاً، ممن تقلصت قدرتهم الشرائية مع انهيار العملة المحلية.
وباتت السوق اليوم تضم نوعين مختلفين من البالة: البسطات التي تستعرض الثياب المبعثرة والمهملة. والمتاجر التي باتت تعرضها مغسولة مكوية كالجديدة، لجذب الزبائن (الميسورون سابقاً). وفئتا الزبائن المختلفتان صارتا تقصدان البسطات والمتاجر بداية كل موسم، للحصول على نوعية جيدة من الثياب بكلفة قليلة تناسب الجميع وتراعي الأذواق كلها. لذا، استقطبت البالة مواطنين كثراً، بعد تردّي الوضع الاقتصادي.
وتقول سارة، وهي إمرأة في العقد الرابع من العمر، إنها أصبحت من الزبائن الدائمين لمحلات البالة، إذ باتت غير قادرة على شراء ملابسها من محلات الثياب الجديدة. وأشارت إلى أنها تقصد محلات البالة أسبوعياً لتلبية حاجات أولادها قائلة: “كنت أشتري الكنزة الجديدة لابني بـ30 أو 35 ألفاً. واليوم صار سعرها 200 ألف، فاتجهت نحو البالات حتى لا يبقى ابني بلا ثياب، الكحل أحلى من العمى!”.
ويشير رامي، وهو صاحب بالة في بيروت إلى أن أوروبا هي المصدر الأساسي والأول للثياب المستعملة، إذ يطلب التاجر حاجته من هذه الملابس، فتصله عبر مرفأ بيروت ويستلمها بعد إتمام رسومها الجمركية وغيرها. وما إن يصل “الكونتينر” حتى يبدأ التاجر بفرز هذه الثياب وكيّها ووضع السعر المناسب لكل قطعة. فكل قطعة تمتاز بسعرها المختلف إستناداً لنوعيتها وجودتها ونظافتها. ويضيف رامي أن بعض التجار يطلبون الثياب الأوروبية “اونلاين” ويختارونها استناداً إلى الصور المرسلة لهم . أما البعض الآخر فيطلب الكونتينر متنوعاً ويتولى هو فرزه و تنظيفه وعرضه. وهناك من يشتري البضاعة من التجار الكبار المحليين الذين يستوردون كمية كبيرة من الثياب الأوروبية ويضعونها في مستودعاتهم ويتاجرون بها محلياً مع أصحاب البالات الصغيرة.
ولأن البالة تلبيّ حاجات السوق، شهدت إقبالاً غير مسبوق عليها من الزبائن. ويقول أحمد،
وهو من التجار الكبار في السوق اللبنانية، إن الأزمة الإقتصادية أنعشت سوق البالات.
فقطعة الثياب الجديدة يتراوح سعرها بين 200 و300 ألف ليرة. وبالتالي أصبح المواطن غير قادر على شرائها.
أما أسعار الثياب المستعملة فتبدأ أسعارها من 25 ألف ليرة. ويصف أحمد أن هذه “التجارة لا تموت”.
فهو يملأ أسبوعياً محله بالثياب، فيقبل الناس يومياً على محله في سوق صبرا،
حيث اعتاد زبائنه على بضائعه الرخيصة للفئات العمرية كلها.
وعلى الرغم من إرتفاع أسعار الثياب الأوروبية المستعملة، نتيجة استيرادها بالدولار، فأن هذه التجارة تشهد تنافساً كبيراً وانتشاراً واسعاً. ففي بيروت مثلاً، تنتشر هذه المحلات في الأحياء الشعبيّة ( برج أبي حيدر، بربور، المزرعة …)
ويتراوح عددها من 2 إلى 3 في كل حي. أما في صبرا ،
فافتتح تجار الثياب الأوروبيّة سوقاً يُدعى سوق البالة ويحوي بسطات صغيرة ومحال كبيرة،
تضم شتى أنواع البالة، من ثياب رسمية، ويوميّة، ورياضية، وبحرية، وولاديّة وغيرها، لتلبيّ حاجات السوق والفئات العمرية المختلفة.
أما الاختلاف بين هذه المناطق، فيكمن في طريقة عرض الملابس وجودتها واختلاف سعرها بين منطقة وأخرى.
ففي الروشة، يقصد الزبائن محلاً أوروبيا مرتباً، يجذب الزبائن الذين لا يساورهم الإحراج. ويتراوح
أسعار قطع الثياب في هذا المحل بين 70 – 80 ألف ليرة. نلاحظ أن زبائن المحل مختلفون عن زبائن البالة العادية.
ويقوم هذا المحل بعرض بضاعته إلكترونيا، مستعينا بالفيسبوك والإنستغرام والتيك توك حتّى.
وهذا ما أدى إلى انتشار اسمه على وسائل التواصل الاجتماعي.
ولأن هذا المحل اعتمد على جذب فئة معينة من الزبائن، تختلف أسعاره تماما عن أسعار بالة
صبرا وبالة المناطق الفقيرة. فالحذاء يبدأ سعره بـ 90 إلى 100 ألف ليرة. أما في صبرا فلا يتجاوز
سعر الحذاء 50 ألفاً. وهنا نلاحظ اختلاف الزبائن بين بالة وبالة.
أما في منطقتي خندق الغميق وبربور، فالوضع يختلف. إذ تتراوح أعداد محلات الثياب الأوروبية
بين 5 إلى 7 محلات في كل من هاتين المنطقتين. ولهذه المحلات زبائن يقصدونها من مناطق بعيدة بسبب نوعية الثياب الجيدة.
ونلاحظ بأن انتشار محلات الثياب المستعملة في بيروت ليس كبيراً، ولكنه منتشر بين كل الأحياء
ويلاقي تنافساً كبيراً بينه وبين محلات البالة الأخرى، ما أدى إلى إغلاق بعض هذه المحلات
بسبب شدة التنافس وانتقال الزبائن من محل إلى آخر، بسبب إختلاف الأسعار.
أما الشياح فلها ميزة خاصة جعلتها مقصداً للفقراء. فسوق الجمال تنتشر فيه بكثافة محلات الباله.
وتفوق عددها 20 محلاً، وتعتمد على نوعية ممتازة من الثياب الأوروبية التي جعلتها مركزاً استقطاب الزبائن من أصحاب الدخل المحدود.
وتشير رنا، وهي زبونة جديدة لمحلات البالة في سوق الجمال، إلى أن راتبها الشهري لا يتعدى 800 ألف ليرة،
وهي طالبة جامعية تتنقل يومياً بين العمل والجامعة. وهي كانت قبل الأزمة تنتقي ثيابها من محلات
مختلفة للألبسة الجاهزة (الجديدة) من الشياح. وكانت القطعة الواحدة الجديدة يتراوح سعرها بين 40-50 ألف ليرة.
أما بعد ارتفاع الدولار فباتت غير قادرة على شراء ثياب جديدة، نظراً لارتفاع سعرها بشكل جنوني.
فالجينز أصبح بـ 200 ألف ليرة، فأُجبرت على الشراء من محلات البالة بكلفة أقل.
فالجينز في الباله يتراوح سعره بين 30 و40 ألف ليرة.
ويشكوا زبائن الباله من تدهور سعر صرف الليرة. فمنهم من يعتبر أن أسعار البالة اختلفت عما كانت عليه سابقاً.
فبعض الأحذية الأوروبية الطبيّة كانت بـ 10 – 15 ألف ليرة، أما اليوم فبات سعرها يتراوح بين 60 و70 ألفاً،
وهي باهظة الثمن لأصحاب الدخل المحدود.
والثياب الأوروبية مستوياتها مختلفة. فهناك مستوى “نخب أول ممتاز”، ومستوى متوسط،
أي جيّد، وآخر متدني الجودة. ولكل مستوى سعره. وبعض التجار حافظ على جودة بضاعته،
رغم تكلفتها الباهظة، لكنه مع الانهيار قد لا يصمد كثيراً. والمنافسون انتقلوا سريعاً إلى المستوى الثاني والثالث
والرابع (الممزق والمهترئ) لتلبية حاجات زبائن تتقلص يومياً قدرتهم على الشراء.