غسان ريفي – سفير الشمال
كشفت الأزمات التي ترخي بثقلها على لبنان منذ نحو سنتين، أن البلد يعاني من أزمة إضافية هي إنعدام الأخلاق، وغياب المواطنة التي لا يمكن لأي وطن أن ينهض من دونها.
وكأنه لا يكفي اللبنانيين ما مارسته عليهم السلطة السياسية من سلوكيات غير مسؤولة ترتقي الى مصاف إنعدام الأخلاق، بدءا من السرقة الموصوفة المتعددة الأوجه لأموالهم في المصارف، مرورا بحرمانهم من أبسط مقومات العيش الكريم، وصولا الى دفعهم نحو الدرك الأسفل من جهنم وتركهم يتخبطون في معاناتهم ومآسيهم، حتى وجد اللبنانيون أن هناك من هو أسوأ من هذه السلطة وأكثر إجراما ووحشية في التعاطي معهم.
بدا واضحا أن ثمة وجها آخر للسلطة الفاسدة والمتوحشة يتمثل بـ”تجار الأزمات” الذين تجردوا من كل ما يمت الى الانسانية والضمير والأخلاق بصلة، وعاثوا فسادا في المناطق اللبنانية لاستغلال حاجات الناس وما أكثرها بأسعار باهظة بهدف تحقيق أرباح خيالية من المال الحرام الآتي من كدّ وتعب الفقراء ولحمهم الحيّ.
لم يعد هناك من محرمات لدى هؤلاء “التجار” الذين بدأت أقنعتهم بالسقوط تباعا لتظهر بشاعتهم، ولتفضح من يقف وراءهم من تيارات سياسية تحاضر بالعفة وتدعي زورا حماية الشعب، ليتبين أن الفريقين هما وجهان لعملة واحدة هي الفساد.
في الوقت الذي يتقاتل فيه المواطنون على محطات المحروقات، يتبين أن المناطق اللبنانية تعوم على بحر من البنزين والمازوت يعود لعدد من المحتكرين الذين يعدون هذه الكميات إما لبيعها في السوق السوداء أو لتهريبها الى سوريا وفي كلا الحالتين تحقيق أرباح فاحشة، من دون النظر الى مخاطر هذا التخزين الذي أسقط 35 شهيدا حرقا في بلدة التليل العكارية فيما مثلهم يقاسون الأمرين من أوجاع الحريق، فضلا عن تجار الغالونات الذين شملهم فساد البيع في السوق السوداء وهم المسؤولون عن كل أنواع الفوضى التي تشهدها المحطات..
وفي الوقت الذي يموت فيه المرضى أطفالا وعجزة لعدم توفر حبة دواء تنقذ حياتهم، تتكدس الأدوية المتنوعة في مستودعات تمهيدا لبيعها بأسعار خيالية، بعد شرائها بالسعر المدعوم على 1500 ليرة للدولار، ما يضع أصحابها في دائرة الاتهام بالقتل مع سابق تصور وتصميم.
لا ينتهي الأمر عند هذا الحد، بل يكاد لبنان يتحول كله الى سوق سوداء، فتجار المواد الغذائية يخزنون المدعوم منها، ويرفعون أسعار البضائع الجديدة عند كل إرتفاع لسعر الدولار من دون أن يأخذوا بعين الاعتبار إنخفاضه، ما يجعل أكثرية أسعار السلع في إرتفاع مستمر، وهذا الأمر ينسحب على كل المواد والسلع الأخرى التي تحرق جيوب المواطنين.
واللافت أيضا أن السوق السوداء دخلت الى المؤسسات الرسمية في الدولة اللبنانية، فإخراج القيد الفردي في هذه السوق وصل سعر إنجازه الى مليون ليرة، وإخراج القيد العائلي الى مليونيّ ليرة، وورقة طلب تقديم جواز السفر الى 300 ألف ليرة، وكذلك سائر المعاملات الرسمية التي لا تتوفر أوراقها ومستنداتها، هناك من يعمل على تخزينها لبيعها لمن يحتاج بأسعار فلكية.
ربما تأخرت الأجهزة الأمنية والعسكرية في مداهماتها لأوكار الفساد المتعددة الأوجه، لكن أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي، لكن الأمر يحتاج الى مزيد من التوسع ومن الجهود التي من المفترض أن تشارك فيها كل الوزارات المعنية، فهناك العديد من خزانات المحروقات ما تزال تحت الأرض وكذلك الأدوية في المستودعات، في حين أن مغارات علي بابا التي تخزن المواد الغذائية تحتاج الى من يفتحها، فضلا عن مراقبة الأسعار وهذا من مهمة وزارة الاقتصاد التي ما تزال غائبة عن السمع، فضلا عن مكافحة التهريب ولو بالقوة وإعتماد الأمن الاستباقي على غرار التعاطي مع الشبكات الارهابية، فالمهرب في هذه الظروف يتساوى مع الارهابي وربما يكون أخطر، ويجب إنزال العقوبات الرادعة بكل من يثبت تورطه بالتخزين والاحتكار والتهريب..
وتبقى أبرز معالم إنعدام الأخلاق في لبنان هو أن يرى المعنيون البلد ينزلق الى الهاوية، وأبناءه يكادون يلفظون أنفاسهم الأخيرة، والفوضى الشاملة تهدد مناطقه وربما تؤدي الى حرب جديدة، بينما هم يُمعنون في تأخير ولادة حكومة وقف الانهيار.