عزة الحاج حسن- المدن
تتعدّد سُبل العلاجات الواقعية للأزمات الاقتصادية والمالية. ولا ينفصل أي منها عن الإصلاحات الجوهرية، لاسيما عند انهيار العملة الوطنية لأي بلد. لكن ثمة علاجات “نفسية” تعتمدها الدول في محاولة لنفض غبار الانهيار عن عملتها، تتمثل بحذف الأصفار. وليست فنزويلا التي حذفت 6 أصفار من عملتها منذ أيام بالبلد الوحيد الذي سلك منحى العلاج بالأصفار، إنما هناك عشرات التجارب المماثلة على مستوى العالم. لكن هل من دواع علمية لذلك؟ وهل يمكن للبنان أن يحذف أصفاراً من عملته؟ والسؤال الأهم هل من الممكن أن تشكل عملية حذف الأصفار من العملة اللبنانية حلاً لانهيارها أو جزءاً من حل؟
تغييرات شكلية أم جوهرية؟
لا تتعدى عملية حذف الأصفار من العملة كونها تغييرات شكلية لا قيمة فعلية لها، ولا تأثير عملياً لها في معالجة الأزمات الاقتصادية والمالية الأساسية. ولكن يعتقد خبراء أنها قد تأتي بنتائج إيجابية ملموسة على مستوى التضخم وعموم الأزمة الاقتصادية، فيما لو ترافقت عملية حذف الأصفار مع سياسات وخطط حكومية جدّية، تستهدف التحكّم بالسيولة وضبط تراجع العملة الوطنية ومستويات التضخم. ومن دون ذلك، لا قيمة فعلية لمسألة حذف الأصفار من العملة سوى ما تؤديه لجهة خفض الأرقام المحاسبية، وتسهيل التعاملات الحسابية وغيرها من الإجراءات التقنية.
كثيرة هي الدول التي لجأت إلى حذف الأصفار من عملتها، وفشلت في إحداث أي تغيير إيجابي بفعل خطوتها تلك،
من بينها الأرجنتين التي حذفت الأصفار من عملتها 4 مرات، ويوغوسلافيا (سابقاً) حذفتها 5 مرات،
وزيمبابوي، وكذلك البرازيل تخلّصت من أصفار عملتها 6 مرات، وفنزويلا حذفت مؤخراً 6 أصفار
من عملتها التي باتت بلا قيمة، بعد بلوغ نسبة التضخم نحو 3 آلاف في المئة وهو أعلى مستوى بالعالم.
في المقابل قامت بعض الدول، ومن بينها تركيا بحذف أصفار من عملتها بالتوازي مع إجراءات اقتصادية
صارمة وواضحة، فحققت نجاحاً وتقدماً اقتصادياً ملحوظاً. والسؤال،
أين لبنان من كل ذلك؟ هل بات حذف الأصفار من الليرة اللبنانية أمراً وارداً؟ وهل من جدوى لذلك؟
لبنان وحذف الأصفار
من المبكر جداً توجه لبنان إلى خيار حذف الأصفار من عملته. فلا حاجة إلى هكذا إجراء اليوم،
خصوصاً أن العملة في لبنان تساوي حالياً نحو 18000 ليرة مقابل الدولار، في حين أن الليرة الواحدة فاقدة للقيمة.
بمعنى أن الدولار الواحد يساوي بضعة أوراق وليس 18000 ورقة، في حين غالبية الدول التي حذفت أصفار
من عملتها وصلت قيمتها إلى مستويات قياسية قاربت الملايين مقابل الدولار. وحسب الباحثة في الشأن الاقتصادي والمالي، ليال منصور إشراقية،
فإن اللجوء إلى خيار حذف الأصفار من العملة ليس بالضرورة عاملاً مؤثراً إيجاباً على مستوى التضخم،
إلا في حال ترافق مع إجراءات اقتصادية جذرية.
فمسألة حذف الأصفار من العملة لا تترك أثراً سوى على المستوى النفسي فقط، تقول منصور في حديثها إلى “المدن”،
والعامل النفسي مهم جداً بالاقتصاد لكنه ليس عاملاً أساسياً.
وإذ ترى أن لا حاجة حالياً لإجراء حذف للأصفار في لبنان، تتوقع منصور، أن تصدر الدولة عاجلاً ورقة نقدية
جديدة كالمليون ليرة لبنانية، أو ربما 500 ألف ليرة.
فهي بنظرها باتت ضرورة مع ارتفاع الأسعار وتصاعد مستويات التضخم.
وتقدّر منصور مستوى التضخم في لبنان بنحو 800 في المئة. وهو مستوى يفوق الأرقام المعلنة رسمياً.
تلتقي الخبيرة الاقتصادية سابين الكيك مع منصور، باستبعاد مسألة حذف الأصفار من العملة اللبنانية
في الوقت الراهن، وباعتبارها إجراءً شكلياً قد لا يأتي بأي نتيجة. وتقول الكيك في حديث إلى “المدن”،
استناداً إلى قانون النقد والتسليف، فإن قيمة العملة ترتبط بالاحتياطي الأجنبي المتواجد في مصرف لبنان،
والمخصص فقط لتعزيز سعر الليرة. من هنا، فإن أي حل سواء تمثل بحذف الأصفار أو أي شكل آخر،
لا يمكن إلا أن يكون حلاً شكلياً لا يدخل في أعماق الأزمة، وبالتالي،
لن يكون له أي ارتدادات على الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان. وتعتقد الكيك بأن السلطة
لن تتجرأ على فعل ذلك، خصوصاً أنها لم تصل بالبلد إلى مرحلة وقف الأزمة في مكانها،
بهدف التفرغ لمعالجتها. لا، بل على العكس “لا يزال البلد مستمراً بالانهيار وبتفاقم الأزمة”.
بين لبنان وفنزويلا
السبب الأساسي والأهم الذي دفع فنزويلا مؤخراً إلى حذف الأصفار الستة من عملتها، هو أن أنظمة الدفع انهارت بالفعل، لأن عدد الأرقام يجعل أنظمة الدفع غير قابلة للإدارة عملياً. فهي غير مهيأة للتضخم المفرط.
وفي لبنان كنا قد شاهدنا مؤخراً بوادر مشكلات ترتبط بنظم التعامل في قطاع المحروقات،
حين عجزت ماكينات محطات المحروقات عن التعامل مع الأرقام الكبيرة بعد ارتفاع سعر البنزين بشكل كبير.
ومن غير المستبعد أن تنسحب هذه المشاكل على العديد من القطاعات في المرحلة المقبلة،
فيما لو استمرت الأسعار بالارتفاع ومعها نسب التضخم.
وعلى الرغم من ذلك، لم تبلغ الأزمة في لبنان مستواها في فنزويلا. فالأزمتان اللبنانية والفنزويلية
تختلف في العديد من الجوانب، لكنها قطعاً تلتقي في حجم التعقيدات السياسية وارتباط كافة الحلول الاقتصادية والمالية
وغيرها بالسلطة السياسية المتخاصمة فيما بينها، تقول منصور. وتتقاطع الأزمة في البلدين لجهة
تعمّد السلطة السياسية عرقلة الحلول المعنية بمواجهة الأزمة الاقتصادية،
وفق ما ترى منصور. أضف إلى الشرخ القوي الواقع في السلطة في فنزويلا كما هو الحال في لبنان.
كما أن البلدين وصلا إلى مرحلة متقدمة من التأزم الاقتصادي باتت فيه العلاجات الاقتصادية التقليدية مستحيلة،
من دون اللجوء إلى علاجات جذرية من شأنها استئصال الأزمة من جذورها،
كمن يتعامل مع الأمراض الخبيثة. وتختصر حال الأزمتين في لبنان وفنزويلا بالقول “إن الازمة السياسية
في البلدين خلقت حالاً من انعدام الثقة. وهو ما يترجم بأزمة اقتصادية عميقة”. من هنا، لا يمكن للحلول الشكلية أن تعيد الثقة وحدها.