لا تقف الأزمات التي اندلعت أخيراً عند حدود هذه الأزمات وأسبابها والسعي إلى معالجتها وتطويق ذيولها، إنما يمتد تأثيرها إلى عمق البنية المجتمعية اللبنانية والتحوّلات التي أحدثتها على هذا المستوى.
شكّلت انتفاضة 17 تشرين تبدلاً أساسياً في مزاج الرأي العام اللبناني الذي كان ما زال محكوماً او متأثراً بشكل أو بآخر بمرحلة 8 و 14 آذار وميزان القوى السياسي السابق، قبل ان يدخل الرأي العام بثقله ويصبح لاعباً أساسياً إلى جانب القوى السياسية، وينجح في فرض إيقاعه ولو الجزئي بتشكيل حكومات لا سياسيين فيها، ولكن بقي حدود تأثيره متواضعاً بسبب عدم قدرته على تسييل الحالة الشعبية ضمن إطار جبهوي جامع لكل مكوناتها واتجاهاتها، وعلى رغم التراجع والضعف والوهن الذي أصاب انتفاضة 17 تشرين على مستوى حركيتها على أرض الواقع، إلّا انّها بقيت علامة فارقة وحالة لا بدّ من ان تجد ترجماتها إن في صناديق الاقتراع، او بالتأسيس لانتفاضة ثالثة.
وما ينطبق على انتفاضة 17 تشرين ينسحب على انتفاضة 14 آذار، التي على رغم انفراط إطارها الجبهوي، ما زالت تشكّل رافعة لأي مواجهة من طبيعة سيادية، وبالتالي الرأي العام الذي انتفض في المرحلة الأولى من أجل إخراج الجيش السوري وقيام الدولة، وانتفض في المرحلة الثانية من أجل إدارة شفافة لهذه الدولة، لن يبدِّل في القناعات التي دفعته إلى النزول إلى الشارع حرصاً على نمط عيشه ومستقبله في هذا البلد، إنما قد ينكفئ ويتراجع، ولكنه في الوقت المناسب والموات يستعيد حيويته وجهوزيته دفاعاً عن قناعاته ورؤيته للبلد.
فالأرضية الشعبية اللبنانية جاهزة للتغيير، وجاءت الأحداث المتفرقة في شويا وخلدة وعين الرمانة لتدلّ انّ حاجز الخوف من السلاح لدى اللبنانيين قد سقط، وانّ الانتخابات النيابية ستشكّل نقلة نوعية في المواجهة السلمية مع سياسة الأمر الواقع. ولكن ما لم يكن في حسبان وحسابات القوى والبيئات اللبنانية الساعية لقيام الدولة، تلقّيها ثلاث هدايا قيّمة من «حزب الله» وكافية لقلب الطاولة الانتخابية.
الهدية الأولى تمثلّت من خلال وضع «حزب الله» في رأس قائمة أهدافه إسقاط التحقيق في انفجار مرفأ بيروت و«قبع» المحقِّق العدلي طارق البيطار. هذا الانفجار الذي هزّ الضمير العالمي أعاد توحيد معظم اللبنانيين والقوى المنتفضة تحديداً على هدف العدالة وحماية المحقِّق والوصول إلى حقيقة في أسباب الانفجار.
فالمواجهة التي يخوضها الحزب ضدّ العدالة أعادت توحيد الناس التي انتفضت في 17 تشرين و14 آذار، كما توحيد الرأي العام اللبناني الذي بقي خارج اي انقسام او ترسيم، لأنّ العدالة بالنسبة إلى اللبنانيين كالحرية، من خطوط التوتر العالي التي لا يسمح ولا يتهاون باستهدافها، وبالتالي أعادت هذه المواجهة ضدّ العدالة إيقاظ روح الثورة داخل هذا الجسم العابر للطوائف والمناطق، وبالتالي إذا كانت تراجعت الثورة في فترة من الفترات فإنّ الحزب قد أعاد نفخ الروح فيها من حيث يدري او لا يدري.
الهدية الثانية تمثلّت في غزوته لعين الرمانة، في مشهدية أعادت إحياء مشاهد الحرب الأهلية، بنزول مئات المسلحين إلى الشوارع مدجّجين بالسلاح المتوسط والخفيف، وهذه المشهدية كانت كافية لقلب المشهد السياسي في ثلاثة اتجاهات: مزيد من تعزيز وضع «القوات اللبنانية» مسيحياً على حساب «التيار الوطني الحر» وبعض مجموعات المجتمع المدني التي حاولت تغليب العنوان الاجتماعي على السياسي؛ إعادة توحيد الموقف السياسي للقوى السيادية التي تضامنت منعاً لاستهداف أي مكوّن من مكوناتها توطئة لاستهدافها مجتمعة، وعلى رغم انّ وحدة الموقف في غزوة عين الرمانة لم تتطوّر إلى وحدة صف سيادي، ولكنها شكّلت مقدّمة في هذا الاتجاه؛ استنفار الرأي العام اللبناني السيادي العابر للمناطق والطوائف ضدّ استخدام القوة لتصفية الحسابات السياسية، وضدّ محاولة استخدام بعض القضاء لتحقيق المآرب السياسية. وقد زادت هذه الممارسة في تصميم الرأي العام على مواجهتها منعاً لإخضاع اللبنانيين بالقوة، أو للحؤول دون عودة عقارب الساعة إلى زمن الحرب الأهلية.
الهدية الثالثة تمثلّت في مواجهته ضدّ الدول الخليجية وإصراره على عدم استقالة الوزير جورج قرداحي، على رغم انعكاس هذا الإصرار على وضع لبنان وعزلته عن محيطه وعمقه ورئته الأساسية، وقد أعاد من خلال تصرفه غير العقلاني تعبئة البيئة السنّية ضدّه، هذه البيئة التي كان البعض منها دخل في عملية تبريد سياسي معه، فجاء تصرفه البعيد عن الحكمة والعقلانية وبُعد الرؤيا السياسية، ليعيد شحن أهل السنّة ضدّه.
وخطورة هذه الهدايا الثلاث على «حزب الله» أنّها أعادت توحيد ثلاثة مكونات ضدّه دفعة واحدة: المسيحيون والسنّة والرأي العام اللبناني العريض، الذي يضع نفسه خارج أي اصطفاف سياسي، ولكن موقفه السياسي الداعم لقيام الدولة والسيادة ونمط عيشه واضح المعالم، وهذه الوحدة في الموقف السياسي بين هذه المكونات هي الأولى من نوعها منذ انفراط عقد 14 آذار، ما يعني انّه أعاد من خلال ردود فعله العشوائية وغير المدروسة، ليس فقط توحيد البيئات التي كانت ضدّه، إنما شحنها وتعبئتها وتجييشها.
وتعبئة البيئات المسيحية والسنّية والرأي العام لا تعني انّ البيئة الدرزية الاشتراكية خارج هذه المشهدية، بل هي في عمقها وصميمها، وفي لحظة الخيارات الأساسية والانتخابات النيابية ستصبّ في الاتجاه نفسه، على رغم الحياد المعلن الذي تعتمده. ما يعني انّ «حزب الله» والقوى التي تدور في فلكه وفي طليعتها «التيار الوطني الحر»، أصبحت في موقع المحاصرة وطنياً وسياسياً وشعبياً، وستفقد في الانتخابات المقبلة أكثريتها النيابية.
وفي خضمّ هذه المشهدية، بدأت تكبر المخاوف على الانتخابات النيابية، لأنّ «حزب الله» لا يريد تكرار تجربة العراق بخسارة الميليشيات والقوى التي تنشر النفوذ الإيراني، وذلك بعد أكثر من 17 عاماً من الإمساك بالقرار السياسي، خصوصاً انّ كل المؤشرات التي سبقت «هدايا» حزب الله» كانت ترجِّح خسارته للأكثرية النيابية، وبالتالي كيف بالحري على إثر هداياه التي أعادت توحيد الجسم السيادي والبيئات اللبنانية، وتحديداً المسيحية والسنّية والدرزية، التي هزمته في انتخابات العام 2009، فيما نقمة الناس على الحزب اليوم مضاعفة عمّا كانت عليه في الانتخابات الثانية بعد الخروج السوري من لبنان.