المصدر: أخبار اليوم
المشكلة لم تَكُن يوماً في الأزمات بحدّ ذاتها، مهما كثرت واستفحلت، بل بالناس الذين يستغلّونها. والأزمة الإقتصادية والمالية التي نكتوي بها منذ عامَيْن، ما كانت لتصل الى هذا الحدّ، لولا أن الشعب اللبناني ينهش بعضه، ويتبادل عمليات السرقة، بأشكال عدّة، وبذرائع كثيرة.
لعبة الأمم
فعلى سبيل المثال، لا علاقة للعبة الأمم، بصيدلاني “بيشحّدك” علبة واحدة من شرائط اختبار نسبة السكر في الدم (تلك التي توضَع نقطة الدم عليها لقياس السكري)، مفتوحة، ومُستعمَلَة، وناقصة العدد بـ “ذكاء” و”إتقان”، وبسعرها العادي، أي كما لو كانت العلبة مختومة.
وإذا طالبتَه بعلبة أخرى، مختومة، يجيبك بأن ليس لديه غيرها، وأنها الوحيدة التي تمكّن من الحصول عليها، وأنه لن يتمكّن من تأمين أخرى قبل شهر أو أكثر، ربما. وبما أن لا خيارات أمامك، وسط أزمة دوائية حادّة، تشتري، وتدفع، وتصمت.
مداخيل
وما دخل الأميركيين والروس، ببائع خضار وفاكهة، يبيع بضاعته “كلّ تكّة شكل”، فيكون سعر كيلو البندورة 18 ألف ليرة مثلاً لهذا، و17500 ألف ليرة لذاك، و16750 ألف ليرة لغيره، ومن صنف البندورة نفسه، وبفارق أقلّ من نصف ساعة؟
وما دخل الإتحاد الأوروبي والصين، بطبيب يرفض الإجابة على سؤال لمريض أجرى عمليّة جراحيّة له، عبر الهاتف، رغم أن الجواب لا يحتاج الى أكثر من ثلاثين ثانية بالأكثر؟ أما إذا أجاب، فيكون ذلك “بنشافة”، وفي رسالة واضحة الى أن العيادة هي المكان المخصَّص لمزاولة المهنة. والهدف الحقيقي، ليس سوى أنه يرغب بالحصول على المال، والمال، والمزيد من المال، رغم علمه بأنّه “نظّف” جيبك، وأجرى لها “عزلة بالهوفر”، تكفي قيمتها لعلاج مرضى قارة أفريقيا كلّهم، مدّة عقود وعقود، لو كنّا في دولة تراقب مداخيل الأطباء، ومدى تناسقها مع الخدمات التي يقدّمونها.
غياب القانون
معلوم أن هذا النوع من الأزمات التي يمرّ بها لبنان حالياً، وكلّما طال، يزيد من نسبة الراغبين بممارسة السرقة، وتجميع الثّروات، لدخول طبقة الأغنياء، فيُصبحون من الأثرياء الجُدُد. و”كل واحد سرقتو عا قدّو”. ولكن ما يجرح، ويؤذي بالأكثر، هو السرقات “رفيعة المستوى”، والمغطّاة بشروحات كثيرة، وبغياب القانون.
فالسرقة، هي سرقة، وتبقى كذلك. ولا توجد سرقة مبرّرة، مهما كان الإنسان فقيراً، أو محتاجاً. ولكن إذا أردنا محاكمة من يسرق ربطة خبز ربما، أو بعض الخضار، أو الفاكهة، أو المواد الغذائية، لأنه لم يَعُد يمتلك المال، فمن العدالة أيضاً محاكمة أولئك الذين يسرقون، بـ Blouse Blanche، وبربطات عنق، أو بـ “كعب عالٍ”، وبروائح عطرة، ثمن سعر الزجاجة الواحدة منها، يُطعِم عائلة جائعة لأشهر عدّة ربما.
مشكلة؟
السرقات كثيرة في بلادنا اليوم، وهي التي تحوّل حياة الناس الى جحيم حقيقي، وليس الأزمة الإقتصادية والمالية بحدّ ذاتها.
فالمال يبقى مالاً، أي لا روح، ولا لحم، ولا عظم له، وهو ليس مشكلة بحدّ ذاته، ولا يُخيف بقدر الذين يستعملونه للمضاربة، و”التخزين”، و”التكديس”، و”النّهش”، والاحتكار، والسرقة…
سرقة
عبّاد المال، هم الذين أوصلوا سعر صرف الدولار في السوق السوداء الى أرقام مخيفة، وليست الأسباب التقنية للأزمة، فقط.
السارقون الصّغار، والكبار من خلفهم، هم الذين أوصلوا اللبناني الى التقنين في الكهرباء، والى التقنين على التقنين، والى الظّلام.
السرقة. إنها باختصار السرقة، في كلّ مكان.
قبل الـ Bonjour
فمن يصدّق مثلاً أن بعض المدارس بدأت حالياً، بتنظيم رحلات للطلاب، في عزّ أزمة إقتصادية ومالية خانقة، وبموازاة أزمة وبائية، وطبية – دوائيّة أيضاً؟
ومن يشرح لإدارات تلك المدارس أن عودة الطلاب الى الصّفوف هو للتعلُّم أوّلاً، وذلك مقابل حقّها (الإدارات) في الحصول على الأقساط. ولكن Stop… ولا يحقّ لكم التفكير في ابتكار أساليب تدمير جيوب الناس، برحلة من هنا، وبأخرى من هناك، كلفتها 250 ألف ليرة لبنانية للتلميذ الواحد.
فالـ 250 ألف ليرة تلك، هي المبلغ الذي يتوجّب دفعه قبل الـ Bonjour. أما إذا أردنا زيادة تكاليف الأكل، والشراب، و…، فقد نتجاوز الـ 400 ألف ليرة للولد الواحد، وربما أكثر. ولا ذنب للطلاب والأهالي، إذا كانت لديكم بعض المدفوعات المطلوبة منكم، والتي يتوجّب عليكم تحمّل تكاليفها بأنفسكم، والتي تستطيعون تحمّلها، لولا أنّكم تبحثون عن عَدَم المساس بـ “احتياطاتكم ما فوق الإلزامية”، بكثير.
أنقذوا
بلادنا مسروقة، منهوبة، من كبار القوم، وصغارهم. وكلّما طالت الأزمة، كلّما زادت السرقات، وعمليات النّهب، وكلّما زادت أعداد الراغبين بأن يسرقوا.
“شعوب” لبنان الكثيرة، على اختلاف مكوّناتها وطبقاتها وأطيافها، تقتات من السرقة، فأنقِذوا اللّيرة اللبنانية والدولار، من بين أيديهم!