كتب المحرر السياسي:
يوم شكّل الرئيس نجيب ميقاتي حكومته، بعد أكثر من سنة من الفراغ الذي ملأته حكومة تصريف الأعمال، “انتعش” سعر الدولار، فسجّل انخفاضًا ملحوظًا انعكس ارتياحًا تلقائيًا في نفوس المواطنين، بعدما كان قد وصل إلى “ذروة الجنون” حين اعتذر رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري عن التأليف، على وقع الخلافات مع رئيس الجمهورية ميشال عون.
يومها، استبشر اللبنانيون خيرًا، وشعروا أنّ وجه الحكومة سيكون “وجه خير” عليهم، أولاً لأنّ وجودها يبقى أفضل من عدمه، وثانيًا لأنّها استطاعت، من دون أن تفعل شيئًا، خفض سعر الدولار، الذي شكّل سبب “ويلات” اللبنانيين لأشهر طويلة، بعدما تسبّب بـ”غلاء فاحش” في أسعار المواد الاستهلاكيّة الأساسيّة، أصبح كثيرون معه محرومين من “نعمة” العيش بكرامة
لم تتأخّر الحكومة في ترجمة هذا “الحماس”، فكانت “اندفاعتها” غير المسبوقة، التي تجلّت في ضربها رقمًا قياسيًا في صياغة وإنجاز البيان الوزاري، وصولاً حتى الحصول على ثقة مجلس النواب، للشروع عمليًا في مهامها، التي تصبّ بشكل عام في خانة “الإنقاذ” الذي كانت البلاد بأمسّ الحاجة إليه، عبر المفاوضات مع صندوق النقد التي باشرتها سريعًا.
“شهر عسل” لم يصمد
لم يدم “شهر العسل” الحكوميّ أكثر من شهر واحد، قبل أن تُضرَب الحكومة من الداخل، فكان تعطيل جلسات مجلس الوزراء، مع ما ولّده من “شلل”، حاول رئيس مجلس الوزراء أن “يستره” من خلال اجتماعات وزاريّة مكثّفة، سعى من خلالها إلى التأكيد على أنّ الحكومة ماضية في مشروعها الإصلاحيّ، وفي “الأجندة” التي فرضتها على نفسها منذ اليوم الأول، رغم كلّ الصعوبات والتحديات، وقبل ذلك المعوّقات.
وبعدما عُطّلت الحكومة بسبب إصرار بعض مكوّناتها على “زجّها” في ما لا شأن لها به، وفق ما يؤكّد الرئيس ميقاتي، كانت الضربة الثانية “القاتلة” للحكومة، من خلال الأزمة الدبلوماسية مع دول الخليج، بمُعزَل عمّا إذا كانت “عفوية” أو “مفتعلة”، حيث لفت مرّة أخرى إصرار بعض مكوّنات الحكومة على القفز فوق مسبّبات الأزمة، والتعامل معها بـ”برودة فائقة”، من دون الأخذ في الاعتبار الوضع القائم في لبنان.
بنتيجة كلّ ما سبق، جاءت تطورات الأيام الماضية في سياقها الطبيعي والمنطقي.
سعر الدولار عاود تحليقه، حتى إنّه “تجاوز” الذروة التي سجّلها سابقًا، ما “أفرغ”
الإنجاز الذي تحقّق عبر تشكيل الحكومة من مضمونه. وبالموازاة، زاد “اختناق” المواطنين،
وارتفع مستوى “الضغوط” التي يتعرّضون لها، لا سيما بعد رفع الدعم، المُعلَن ولو بقي مستترًا،
عن المحروقات أولاً، والدواء ثانيًا، وكلّ ما يمتّ إليهما بصلة
إلى العمل!
لعلّ المفارقة المثيرة للريبة، وسط كلّ ذلك، يتمثّل في بعض التصريحات المتداولة
وسط كلّ هذه المعمعة، وكأنّ هناك من يعيش “انفصامًا”، أو يصرّ على عدم رؤية الأمور سوى
من الزاوية الضيّقة التي يتحرّك عبرها. بين هؤلاء من أصرّ على وجوب استمرار “المراوحة الحكوميّة” على حالها،
ومن يرهن عودة الحكومة بمصير قاضٍ من هنا أو هناك، ومن يرفع السقف السياسي أكثر،
محوّلاً مئات الآلاف إلى “رهائن” في قبضة بعض السياسيّين “النافذين”.
على النقيض من ذلك، ثمّة من يعتقد أنّ التحليل “الجنوني” لسعر الدولار، وتسجيله الأرقام القياسية من جديد،
ينبغي أن يشكّل “صدمة” لجميع الأفرقاء، وفي مقدّمها “الشركاء المفترضون” في الحكومة،
بحيث يتحوّل إلى “حافز” بالنسبة إليهم، لإعادة المياه إلى مجاريها، وتحريك “عجلة”
الحكومة بالتي هي أحسن، لعلّها تستطيع، رغم كلّ شيء، تعويض بعض ممّا فات، والإقلاع من جديد بالمشروع الإنقاذي.
لا شكّ أنّ المساعي لتحقيق ذلك قائمة على قدم وساق، وهو ما يفسّر “نفحة التفاؤل”
التي رُصِدت في الأيام الماضية، سواء من جانب رئيس الجمهورية ميشال عون أو رئيس
الحكومة نجيب ميقاتي، وإن كان الاعتقاد السائد أنّها لم تتجاوز حتى الآن “النوايا الكلامية”،
وقد تكون مؤجّلة لما بعد عودة الرئيسين عون وميقاتي من رحلتيهما الخارجيتين،
فيما يسأل كثيرون عمّا إذا كان بوسع الناس أن تنتظر أكثر، وسط كلّ هذه “المراوحة القاتلة”.
الأكيد أنّ الوضع في لبنان ليس “مثاليًا”. من الظلم تحميل الحكومة الحالية، ولو كانت “مشلولة”،
المسؤولية الكاملة. فالتدهور الحاصل الآن هو نتيجة تراكم أشهر وسنوات، بلا شكّ. لكن، من العدل أيضًا،
القول إنّ ثمّة مسؤولية “أخلاقية” كبرى على معطّلي الحكومة، وهم العالِمون بأنّها “قادرة” بالحدّ الأدنى،
على “تنفيس” الغضب الشعبي، لكنّهم لا يريدون قبل تحصيل بعض المكاسب، التي قد لا تساوي شيئًا بعد حين!.