المصدر: ليبانون فايلز
تشهد مدينة طرابلس انفلاشاً كبيراً في عدد من الظواهر التي تنمو وتكبر تحت تأثير الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وانهيار مؤسسات الدولة، مثل السرقات والنشل والتشليح. فلا يكاد الليل يُرخي سدوله حتى تخلو المدينة من المارّة والسيارات، في ما هو أقرب إلى حظر تجوّل غير مُعلن، لتصبح الشوارع، ولا سيّما التقاطعات الرئيسية، مرتعاً للعصابات ومصائد للعابرين القلائل
ما يزيد الطين بلّة هو تحوّل المدينة بكاملها بعد منتصف الليل، مع إطفاء مولّدات الاشتراكات الكهربائية، إلى ما يشبه غابة موحشة من الكتل الإسمنتية المظلمة، لا روح فيها ولا ضياء، والأصعب لا أمن ولا أمان. ويستمرّ ذلك حتى الساعة السادسة صباحاً، الموعد الرسمي المُتّفق عليه بين “رابطة” أصحاب المولّدات لإعادة تيّارهم الكهربائي الى المنازل.
هذا الوقت الطويل، البالغ ستّ ساعات، يعطي الفرصة الكافية لكلّ مَن يريد أو يرغب في القيام بعمليات سلب، لم يكن ممكناً التفكير فيها مُطلقاً قبل هذه الظروف “الكهربائية”، المستندة إلى ظروف اقتصادية تقرّب كثيرين من “المجاعة” وليس الجوع فقط. فلم تعد السرقة تقتصر على ما خَفَّ حِمْله وغلا ثَمَنُهْ، بل صارت تشمل ما ثَقُلَ حِمْلُهْ وقلّ ثَمَنُهْ، المهمّ أنّه بالدولار وكفى. أو أن يقي السارق جوع يوم أو اثنين.
من السرقة إلى النهب
منذ أسابيع قليلة، نُهبت، بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى، “مدرسة الفضيلة الرسمية”، تحت جُنْحِ الظلام. السارقون كان لديهم الوقت الكافي كي يقوموا على مهل، ومن دون إزعاج، بفكّ المكيّفات وتحميلها، بالإضافة إلى باقي تجهيزات المدرسة، من حواسيب وشاشات عرض ومعدّات تصوير وكاميرات وتجهيزات الإرشاد الصحي وقرطاسية، أي ما يوازي حمولة شاحنة، وربّما لو كان الليل أطول قليلاً لأخذوا معهم مقاعد التلاميذ!
قُدّرت قيمة المسروقات بحوالي 25 ألف دولار “فريش”. ولم تكن المرّة الأولى التي تتعرّض للسرقة تلك المدرسة. وكانت سبقتها مدرستا “ابن خلدون” و”الأرز” الرسميّتان.
ربّما تشكّل أسماء المدارس استفزازاً اجتماعياً يجعل السارقين يستهدفونها دوناً عن غيرها. ثمّة مَن اعتبر، من أهالي التلامذة أو من سكّان المدينة، أنّ موقع مدرسة الفضيلة في منطقة غير مأهولة ساعد في حصول هذه السرقة المطوّلة. لكن حتى لو كان هناك سكّان بالقرب من المدرسة، فماذا كان في وسْعهم أن يفعلوا؟
ثمّ نُهب سوق الخضار الجديد، بعدما سُرق قبلاً على مراحل.
نَلْحَظ هنا أنّ السرقات تحوّلت إلى عمليّات نهب. وقد سيق التبرير نفسه أيضاً بأنّ السوق يقع في مكان لا عُمران فيه. وأخيراً فوجئ سكان مدينة الميناء بسرقة السور الحديدي المُقام منذ أمد ليس ببعيد على البحر، وهو حدث سبق وقوعه في مكان آخر من الكورنيش البحري.
وما بين هذه الحوادث المذكورة وقبلها، حدثت سرقات من نوع جديد، دخلت حديثاً السوق المحليّة، وتعاني منها كلّ المدن اللبنانية، مثل سرقة بوّابات المباني والعمارات، والكابلات الكهربائية وغيرها، وهي تندرج تحت خانة سرقة المعادن، ذات الطلب العالي عليها، والتي يتمّ بيعها إلى البور الكثيرة التي ازداد انتشارها في السنتين الأخيرتين. ويسهل إخفاء آثار هذه السرقات بتذويب المعادن.
ما يجمع بين كل تلك السرقات هو الوقت الطويل نسبيّاً الذي يحتاج إليه كلٌّ منها، والضوضاء التي تتسبّب بها، ويغدو السؤال المطروح: أين الأمن؟
تقاطعات التشليح
فضلاً عن عمليّات النهب تلك، ثمّة ظاهرة أصبحت راسخة في المدينة، وهي ظاهرة السلب بواسطة السلاح، والتي تُعرف بـ”التشليح”، عند نقاط معيّنة تشكّل عقدة مواصلات رئيسة تربط المدينة بالجوار.
تقع أشهر هذه النقاط عند مدخل ربوة القبّة، المطلّ على نهر قاديشا الشهير بـ”أبو علي”، وهو أحد المداخل الشرقية للمدينة، وهو يربط مدينة طرابلس بزغرتا عن طريق مجدليا. عند هذه النقطة تحدث عشرات عمليّات التشليح منذ أشهر عديدة، وسط مطالبات الأهالي للقوى الأمنيّة باستحداث نقطة تفتيش ثابتة هناك، لكن من دون جدوى.
وكذلك الحال عند مستديرة الميناء، جنوب غرب المدينة، التي تربط مدينتيْ طرابلس والميناء، ومنها يبدأ أوتوستراد طرابلس – بيروت، حيث تتكرّر أيضاً حوادث التشليح منذ مدّة، وإن كانت بوتيرة أخفّ من نقطة القبّة – مجدليا، من دون أن تَجِدْ مطالبات الأهالي لقوى الأمن بتسيير دوريات أو إقامة نقطة تفتيش أيّ تجاوب.
تقع النقطة الثالثة عند مدخل المدينة الشمالي، ناحية طريق المحجر الصحيّ، قريباً من أبرز معالم طرابلس، جبل النفايات. وتشتهر المحلّة هناك بوعورتها وانعدام السكن فيها تقريباً، ويقع فيها سوق الخضار الجديد الذي تمّ نهبه والتشليح
أضف إلى ذلك بعض عمليات السلب والنشل التي تحدث في عمق المدينة،
والتي كانت إلى الأمس القريب محدودة نسبيّاً، لكن يلاحظ ارتفاع وتيرتها في الفترة الأخيرة.
والفئة الأكثر عرضة لها هم الأشخاص الذين يقومون بتوصيل الطلبيات في ظروف مناخية
ومادية قاسية جدّاً من أجل تحصيل لقمة العيش، فتصبح المعادلة على الشكل التالي:
فقير يسرق فقيراً آخر. هذا إن صحّ الافتراض أن السرقات دافعها الفقر فقط.
سوق “الحراميّة”
حوّلت كثافة السرقات وعمليّات التشليح مدينة طرابلس إلى ما يشبه “سوق الحرامية”
الشهير في عدد من الدول العربية، وهو سوق عمره عقود، وحمل هذا الاسم بسبب عرضه سلعاً مستعملة، غالباً ما تكون مسروقة.
أمّا السبب في ذلك فهو تضاعف أعداد السارقين بشكل كبير، بالإضافة إلى سهولة
تصريف البضائع المسروقة. وعلى سبيل المثال، فقد تمكّنت القوى الأمنيّة من العثور على السور الحديدي المسروق في إحدى البور.
تُرى ألم يكن يعلم مَن اشتراه أنّه مسروق؟ ومَن يشتري الدراجات النارية
المسروقة من دون أوراق تُثْبت ملكيّتها أفلا يعرف أيضاً
مصدرها؟ وهؤلاء الذين يسرقون المدارس، أين سيبيعون “غنائمهم”؟ أليس في طرابلس نفسها؟
بيد أنّ كلّ تلك الظواهر لم تكن لتنمو بهذا الشكل السريع والمخيف
لولا تراخي مؤسسات الدولة الشرعية، وخصوصاً الأجهزة الأمنيّة.
غياب الأمن
يُسجّل للأجهزة الأمنيّة، من جيش وقوى أمن داخلي، أنّها أظهرت قدرات عالية جدّاً في
الحملة التي أطلقتها لملاحقة المخدّرات ومروّجيها، إثر الضغوط الخليجية والشعبية
في آن معاً. لكن في المقابل تُطرح العديد من علامات الاستفهام عن تراخيها في منع استفحال ظواهر السرقة والتشليح.
فمن الملاحظ انعدام الدوريّات الليلية في الشوارع، على الرغم من كثرة أعمال السرقة،
بالإضافة إلى التمنّع عن وضع نقاط تفتيش في التقاطعات التي تشهد عمليّات تشليح منتظمة،
من دون سبب واضح. وهو إجراء سيكون كفيلاً بالحدّ من تلك الظاهرة. ويعدّ أقلّ وطأة
وكلفة على الأجهزة الأمنيّة من ملاحقة عشرات السارقين.
علاوة على ذلك، يُعاب على شرطة بلدية طرابلس غيابها التامّ عن شوارع المدينة
وكأنّها غير موجودة أو معنيّة بكلّ ما يحصل، حيث يغلب عليها طابع الشرطة الإدارية أو المكتبيّة.
في حين أنّ رئيس بلدية طرابلس رياض يمق صرّح أكثر من مرّة بأنّ الأمن في المدينة من مسؤولية أجهزة
الدولة وحدها وليس شرطة البلدية، التي لا تملك العديد الكافي، ولا الصلاحيّات اللازمة،
وهذا الأمر ظهر أصلاً وقت حريق القصر البلدي
وغياب النخب
وفي المقابل يُلاحظ أيضاً خُمُود الدعوات إلى الأمن الذاتي، التي انطلقت في وقت
من الأوقات إثر تكاثر أعمال السلب والسرقة، وذلك بسبب النصائح التي وُجِّهت إلى
مطلقيها وإلى شباب المدينة بعدم القيام بهذه الخطوة، خوفاً من تهمة الإرهاب
الملتصقة بياقة أبناء المدينة والتي يُكابدون الأمرّيْن للتخلّص منها.
وعلى خطّ موازٍ، تراجعت المحاولات التي كان يقوم بها بعض
من نخب المدينة لإنتاج هيئات مدنية وشعبية تتابع شؤون وشجون المدينة، وتحاول التعاون مع المؤسسات الرسمية، المدنية والعسكرية،
في محاولة للتخفيف من ظواهر التفلّت والفوضى، ولقطع الطريق على الدعوات إلى الأمن الذاتي.
لا يوجد تفسير واضح لهذا الانكفاء النخبوي، الذي ظهر أيضاً في الاستحقاقات النقابية،
سوى أنّ معظم النخب أغرقت نفسها كثيراً في لُجّة الاستحقاق النيابي.
ومن هذه الهيئات، لجنة المتابعة التي شكّلها مفتي طرابلس والشمال محمد الإمام،
والتي تضمّ ممثّلين عن مختلف الطوائف وعن القوى السياسية في المدينة،
وفعّاليّات نقابية وتجارية، والتي توقّفت عن الاجتماع بعد نشاط ملحوظ في الصيف المنصرم،
وإن كان غير مُثمر إلا أنّه ساهم في امتصاص الغضب الشعبي والخطابات الغزائزية.
وسط كلّ هذه الأجواء السوداويّة، يغدو من الطبيعي أن ينصح أبناء المدينة بعضهم
بعضاً في كيفيّة حماية النفس عند الاضطرار إلى الخروج من المنزل ليلاً، إن كان لشراء
دواء أو أيّ من احتياجات الحياة الأساسية، أو للمدمنين على ارتياد المقاهي.
ومن المألوف أيضاً أن يدوّيَ الرصاص في كل ليلة، قاطعاً سكون الليل الكئيب،
حتى أضحى سيمفونية اعتادت عليها آذان الطرابلسيّين. ولعلّها من المفارقات الكئيبة
أنّ مدينة رئيس الحكومة ووزير الداخلية لا أمن فيها ولا حكومة، ولا بلديّة ولا مجتمع مدنيّاً ولا نخب، لا شيء إلّا “الحراميّة”.