شمشونيّة” المودِع اللبناني و”رُهاب” شريعة الغاب

النهار

يريد الجميع في لبنان أن يكون عبد الله الساعي “عبرة لمن يعتبر”: المودعون الذين ينتسب إليهم هذا المواطن اللبناني الذي “حرّر” وديعته المصرفية بالتهديد “الشمشوني” من فرع “بنك بيروت والبلاد العربية” في جب جنين في البقاع الغربي، يتطلّعون إلى أن يخشى مصادرو ودائعهم المصرفية غضبهم، ما يدفعهم الى إيجاد حلول منطقية، فيما المصارف والقوى التي تقف وراءها تضغط من أجل أن يكون اعتقال الساعي، واسترداد الوديعة التي سحبها عنوة، ومحاكمته، درساً قاسياً حتى “يتعقّل” نظراؤه ويمتنعوا عن القيام بمثل ما قام به.

الإشكالية التي يثيرها تصرّف الساعي ليست بسيطة، فهذا الرجل أقدم على أفعال يعاقب عليها القانون، إذ هدّد بحرق نفسه وآخرين ممّن لا ناقة ولا جمل لهم بما حلّ به، بواسطة مادة البنزين إنْ لم يحصل على مبتغاه، وتالياً فإنّ التعامل معه كأنّ شيئاً لم يكن من شأنه أن يوسّع نطاق “شريعة الغاب” التي بدأت تسود في لبنان، ولكن، في المقابل، فإنّ الساعي هو نموذج من ضحايا أخسرهم النظام المصرفي الذي يدعمه نظام سياسي متوحّش، كلّ جنى عمرهم وكلّ مدّخراتهم الوجودية وكلّ قدراتهم الاستثمارية، من دون أن تُفلح مساعيهم السلمية والقانونية والشرعية، على مدى أكثر من سنتين، في الدفع نحو إيجاد حلّ معقول سبق أن عرفته دول واجهت ما واجهه النظام المصرفي اللبناني، مثل قبرص واليونان والأرجنتين وغيرها.

تأسيساً عليه، فإنّ إثارة المخاوف من “تسييد” شريعة الغاب، بالاستناد الى ما أقدم عليه المواطن عبد الله الساعي، لا تقع في مكانها الصحيح، لأنّ هذه الشريعة قد سادت، فعلاً، عندما تُرك النظام المصرفي المدعوم من النظام السياسي، يتصرّف مع المودعين على قاعدة أنّهم مغلوب على أمرهم وضعفاء ولا حق لهم بالحصول على حقوقهم، وعليهم أن يقبّلوا الأرض، صبحاً ومساء، لأنّ المصارف “تهبهم” كلّ شهر، ومن خارج أي تشريع أو نص قانوني، جزءاً يسيراً من أموالهم، بعد “تدمير” قيمته الإيداعية الفعلية.

ولكنّ هذا الحقيقة المرّة، لا تُغني عن البحث في وضعية موظفي المصارف المثيرة للقلق، إذ إنّ الخيارات المتاحة أمام هؤلاء ليست كثيرة، إذ عليهم إمّا تنفيذ الأوامر العليا، وإمّا خسارة ما تبقى لهم من مورد رزق.

ويندر أن تجد لبنانياً ليس له أهل وأقارب وأنسباء وأصدقاء لا يعملون في المصارف، وتالياً فالجميع يدرك أنّ هؤلاء ضحايا “الكبار”، وهم على قدم المساواة مع سائر المودعين، إذ إنّ ما أصاب الآخرين أصابهم، وهم، في هذه المسألة، ولو أنّه جرى وضعهم في الصفوف الأمامية حيث المواجهة المباشرة مع المودعين، أبرياء، ومن الظلم إلحاق الأذى بهم أو تهديدهم.

ولكنّ وضعية هؤلاء الموظفين، على أهميتها وحيويتها، ليست مسؤولية عبد الله الساعي ولا سائر المودعين، بل هي مسؤولية نقابتهم التي عليها أن توقف كلّ أنواع التنسيق والتواطؤ مع جمعية المصارف والقوى السياسية التي تقف خلفها، وتضغط من أجل إيجاد حلول تشريعية عادلة، من شأنها أن تُخفّف الكارثة عن كاهل المودعين المرهقين من جهة، والمخاطر التي يتسبب بها غضب هؤلاء على موظفي المصارف، من جهة أخرى.

منذ أن عرف اللبنانيون بما أقدم عليه الساعي رفع كثيرون منهم شعار “جميعنا عبد الله الساعي”، لأنّه، في واقع الحال، أنجز ما كانوا يفكرون فيه ليلاً ويردعون أنفسهم عن تنفيذه نهاراً.

وهذه الحقيقة الشعبية التي أرعبت النظامين المصرفي والسياسي لا يمكن أن يردعها المدّعي العام بمعونة الشرطي، لأنّ للقمع حدوداً متى تفلّت الغضب من عقاله، خصوصاً أنّ المدّعي العام نفسه بمعونة الشرطي نفسه لا يبالي بالتمادي في مصادرة الودائع من دون أي مسوّغ قانوني.

في الواقع، يتوافر الحلّ في مكان آخر كلّياً، بحيث تُقلع الطبقة السياسية عن إلهاء اللبنانيين بجدلها البيزنطي “على جنس الملائكة” والانكباب، من دون تأخير، على إيجاد حلول سبق أن اعتمدتها دول نهضت من كبوتها، الأمر الذي من شأنه أن يسحب فتيل الغضب الشعبي هنا ويخفّف من تمادي شريعة الغاب هناك.

عشية ذهاب عبد الله الساعي الى فرع “بنك بيروت والبلاد العربية” في جب جنين، كنتُ في نقاش مباشر مع السفير السابق جوني عبدو الذي كان واحداً من أبرز مدراء مديرية المخابرات في الجيش اللبناني، حيث قال من دون أن يرف له جفن: “لا حرج على الجائع، فلو كان الأمر في يدي، لسامحتُ الجائعين على كل ما يمكن أن يقدموا عليه”.

جوني عبدو، بتجربته، يُدرك أنّ الجريمة الحقيقية لا يرتكبها المظلوم بل النظام الذي يظلمه، وتالياً فالمساءلة المطلوبة ليست لعبد الله الساعي، بل لمن أوصل عبد الله الساعي إلى أن يتصرّف على قاعدة “عليّ وعلى أعدائي، يا رب”.

نقلا عن النهار

Exit mobile version