ليست عودة رئيس «تيار المستقبل» الرئيس سعد الحريري إلى بيروت عودة نهائية للاستقرار في العاصمة اللبنانية والتحضير لورشة الانتخابات النيابية، بل هي عودة مؤقتة لوضع المعنيين في أجواء قرار رئيس الحكومة السابق بالعزوف عن المشاركة شخصياً في الانتخابات النيابية المقبلة بعد تقييم سلبي لتجربته في الحكم إلا إذا نجحت قيادات سياسية سنية ووطنية في إقناعه بالعدول عن مثل هذا القرار، ولاسيما في هذا الظرف، إذ إن لانكفاء الحريري بُعداً يتخطى البعد الانتخابي البحت بل يطال البُعد الوطني والسياسي ويثير القلق على موضوع التوازن الوطني المختل أصلاً لصالح حزب الله الذي يهيمن على القرار اللبناني ويستطيع تعطيل أي شيء لا يتوافق مع أجندته الإقليمية والمحلية.
وفي انتظار قرار الحريري الذي سيعلنه يوم غد الاثنين والذي حرص على التكتّم عليه وطلب من أعضاء كتلته عدم البوح بما دار من مداولات، إلا أن لا دخاناً بلا نار، وبات نواب «تيار المستقبل» وكوادره في جو هذا العزوف، وأنه بصدد التركيز على مشاريعه الاستثمارية في دولة الإمارات. والسؤال المطروح هل يعني عزوف الحريري عن خوض الانتخابات عزوفاً لتياره أيضاً للمرة الأولى منذ عام 1996 أم سيترك الحرية لبعض نوابه في بيروت والمناطق لخوض الاستحقاق النيابي وإثبات حضور «المستقبل» وشعبيته التي تراجعت إلى حد ما بسبب أداء الحريري في السلطة والتنازلات والتسويات التي عقدها مع العهد وصهره رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل الذي بدوره تراجعت شعبيته وبات يحسب الأرقام في دائرة الشمال الثالثة ونوعية التحالفات ليعرف إن كان مقعده في البترون مضموناً أم لا؟
غير أن تراجع شعبية الحريري لا يعني أن التيار الأزرق لم يعد القوة الأساسية داخل الشارع السني، فالتيار لا يزال الأقوى داخل البيئة السنية وله حضوره الكبير في بيروت وصيدا والبقاعين الأوسط والغربي وفي طرابلس وعكار وإقليم الخروب، على الرغم من الملاحظات على أداء الرئيس الحريري الذي ورث زعامة والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري وإمبراطورية مالية واقتصادية وتعاطفاً من معظم اللبنانيين بعد اغتيال والده، لكنه بات بعد سنوات منهكاً سياسياً ومالياً ويفتقر إلى حلفائه في قوى 14 آذار بسبب الخلاف على طرق المواجهة، وبسبب الصفقات التي عقدها مع التيار العوني سياسياً وانتخابياً وتقاسم الحصص والتعيينات في إدارات الدولة على حساب حليفه المسيحي المتمثل بحزب القوات اللبنانية والذي كان من نتائجه استقالة وزراء القوات الأربعة من الحكومة بعد انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر وامتناع القوات عن تسميته مرتين لرئاسة الحكومة لأنها لم تجد فيه رجل المرحلة، خصوصاً بعد تقاربه مع الثنائي الشيعي ووقفته المهادنة لحزب الله أمام المحكمة الدولية في لاهاي رغم ثبوت ضلوع الحزب في جريمة 14 شباط/فبراير.
وما ينطبق على القوات ينطبق أيضاً على الحزب التقدمي الاشتراكي الذي وجّه رئيسه وليد جنبلاط أكثر من مرة انتقاداً للحريري وشهدت علاقتهما طلعات ونزلات وجولات من التراشق، قبل أن تعود لتستقر نظراً للعلاقة التاريخية والوجدانية التي ربطت بين جنبلاط والحريري الأب، حيث كان الزعيم الدرزي رأس حربة في الوقوف في وجه النظام السوري بعد اغتيال الحريري وقيادة انتفاضة الاستقلال.
كل هذه الملاحظات على أداء الحريري من حلفائه المفترضين قبل الخصوم جعلته وحيداً في مواجهة العهد ممثلاً برئيس الجمهورية ميشال عون الذي مارس كل أنواع الممارسات لإبعاد سعد الحريري عن رئاسة الحكومة وعدم تمكينه من التأليف، في وقت لم يمارس حزب الله أي ضغوط على عون لتسهيل ولادة الحكومة رغم تأييده تشكيل الحكومة، فيما الموقف العربي والدولي لم يوفّر الغطاء الضروري للحريري للتأليف وخصوصاً موقف المملكة العربية السعودية التي أقفلت أبوابها في وجهه وتوقفت عن دعمه سياسياً ومالياً خلافاً لما كانت تفعله منذ عام 2005 مروراً بانتخابات 2009 وصولاً إلى تساهل الحريري مع حزب الله بعد صدور حكم المحكمة الدولية في قضية اغتيال والده.
وفي ضوء هذه المعطيات، وجد الحريري أنه سيقود معاركه الانتخابية في أجواء غير مريحة أولاً بسبب أزمته المالية وغياب الدعم السعودي، وثانياً بسبب القانون النسبي الذي يشبه إلى حد ما قانون اللقاء الاورثوذكسي وليس القانون الأكثري الذي كان يتيح له حصد مقاعد بيروت والبقاع الغربي وطرابلس وعكار وصيدا والإتيان بأكبر كتلة نيابية كما حصل عامي 2005 و2009 وتوزيع بعض المقاعد على بعض حلفائه المسيحيين، وثالثاً بسبب عدم الرغبة في نسج تحالفات انتخابية مع القوات اللبنانية التي يسود فتور كبير بينها وبين قيادة المستقبل. وعلى الرغم من تأكيد الحزب التقدمي الاشتراكي انفتاحه على التحالف مع «تيار المستقبل» في الشوف وامتداداً حتى بيروت والبقاع الغربي، إلا أن رغبة جنبلاط بالتحالف في الوقت ذاته مع القوات اللبنانية في الجبل حفاظاً على المصالحة التاريخية تعني أن «المستقبل» و«القوات» سيكونان على لائحة واحدة مع الحزب التقدمي الاشتراكي وهذا ما يعيق الاتفاق، نظراً لعدم وجود حلحلة بعد بين القوات و«المستقبل» ونظراً للحساسية الموجودة لدى الحريري ومستشاريه من القوات التي سعت عام 2018 لاقرار القانون النسبي خلافاً لرغبة بيت الوسط، وآخر فصول هذه الحساسية ما عبّر أمين عام تيار «المستقبل» أحمد الحريري في ردّه الحاد على رئيس القوات سمير جعجع بسبب قوله إن القوات متحالفة مع الجمهور السنّي وليس مع قيادته.
هل يكون الهدف من عزوف الحريري عن الترشح شخصياً أن يكون في وضعية مشابهة لوضعية جنبلاط وجعجع أي أن يكون رئيساً لتيار من دون صفة نيابية وأن تكون له كتلة نيابية؟
يعتبر البعض أن سعد الحريري لن يكون بمقدوره أن يكون كجعجع وجنبلاط لأن شخصيته مختلفة ولأن قدرته على الإمساك بالمفاصل داخل تياره تختلف عن قدرة جنبلاط وجعجع على الإمساك بهذه المفاصل داخل حزبيهما بسبب قربهما من الكوادر والقاعدة خلافاً لوضعية الحريري الذي يمضي أوقاته خارج البلاد. وعليه، يًخشى أن يسود التشرذم في صفوف التيار الأزرق في حال إنكفاء الحريري وعدم تولّي أسماء بارزة القيادة بديلاً عنه كالرئيس فؤاد السنيورة أو النائبة بهية الحريري. لكن البعض يعتبر أن إنكفاء الحريري في هذه المرحلة قد يكون فرصة لبروز وجوه سنية نمت في كنف الحريرية السياسية وقادرة أكثر على المواجهة منها على سبيل المثال اللواء أشرف ريفي في طرابلس والنائب السابق أحمد فتفت الذي يرأس حالياً المجلس الوطني لرفع الاحتلال الإيراني عن لبنان، والنائب فؤاد مخزومي في بيروت من دون إغفال الشيخ بهاء الحريري الذي يعد العدة لتخوض حركة «سوا للبنان» الانتخابات في أكثر من دائرة.
والقاسم المشترك لهذه الشخصيات أنها على تنسيق مع القوات وتتقارب معها في الخطاب العلني والواضح ضد حزب الله وسلاحه في مواجهة شخصيات سنية تقليدية حليفة للحزب مثل فيصل كرامي في طرابلس وعبد الرحيم مراد في البقاع الغربي أو شخصيات سنية مستقلة داعمة لثورة 17 تشرين كأسامة سعد في صيدا. أما الرئيس نجيب ميقاتي فله حيثيته الخاصة ولكن في قلب عاصمة الشمال وهو لم يحسم بعد قراره بالترشح إلى الانتخابات في انتظار اللحظة المناسبة.
سعد الياس- القدس العربي