بولا أسطيح – الشرق الأوسط
في “مجتمعات” كالمجتمعين اللبناني والسوري حيث معدلات الفقر والظلم وعدم المساواة تسلك منحىً تصاعدياً، يسلك التعليم تلقائياً مساراً انحدارياً؛ فبدل الانكباب، كما في باقي المجتمعات والدول، على تحسين التعلم، وتطوير المناهج، وتنمية المهارات، تنكب المنظمات الدولية في لبنان على ضمان تأمين حق التعلم للأطفال والحيلولة دون تسرب مزيد منهم خارج النظام التعليمي مما يهدد مستقبلهم ومستقبل هذين البلدين.
أرقام مقلقة
وبلغة الأرقام؛ فإن نصف الأطفال السوريين، بحسب «يونيسف»، خارج المدارس؛ سواء أكانوا في الداخل السوري أم في بلدان اللجوء. وبحسب ليزا أبو خالد، المتحدثة باسم «مفوضية اللاجئين» في لبنان، فإن 30 في المائة من الأطفال السوريين الموجودين في لبنان لم يذهبوا إلى المدرسة مطلقاً، وانخفض الالتحاق بالمدارس الابتدائية بنسبة 21 في المائة على الأقل هذا العام وحده.
ويستضيف لبنان 660 ألف طفل سوري لاجئ في سن المدرسة، ما يعني أن 200 ألف منهم لم يذهبوا إلى المدرسة قط، علماً بأن 60 في المائة لم يسجلوا في المدارس خلال السنوات الأخيرة.
ما ما يتعلق بالأطفال اللبنانيين، فلا وجود لأرقام رسمية؛ سواء لدى وزارة التربية اللبنانية، وحتى لدى «يونيسف»، لكن الطرفين يؤكدان وجود تسرب مدرسي نتيجة الأزمة الاقتصادية والمالية العاصفة بالبلد.
وبحسب معلومات «الشرق الأوسط»، كان ««مكتب البحوث التربوية» التابع لوزارة التربية اللبنانية قد بدأ في عام 2020 دراسة حول التسرب والرسوب المدرسي، وأنهى وضع الإطار العام للدراسة والأدوات المرافقة لها، ولكن بسبب وباء «كورونا» لم يتمكن من استكمال العمل الميداني؛ أي الدخول إلى المدارس لتعبئة الاستمارات، مما أدى لتوقف العمل بهذه الدراسة وبكل الدراسات التي كانت قيد الإنجاز في ««مكتب البحوث التربوية».
وتؤكد رئيسة «اللجنة الفاعلة للأساتذة المتعاقدين في التعليم الرسمي الأساسي»، نسرين شاهين، أن «هناك كثيراً من الأطفال اللبنانيين الذين باتوا خارج المدارس في العامين الماضيين، لكن للأسف لا أرقام دقيقة»، موضحة أن هناك «من بدأوا العام الدراسي، لكنهم إما لا يداومون بشكل يومي، وإما توقفوا عن الحضور بالمطلق لارتفاع تكلفة المواصلات وعدم القدرة على التنقل سيراً على الاقدام بسبب الظروف المناخية».
وتشير شاهين في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه «بعدما كان جهل بعض الأهالي يدفع بهم لإخراج أطفالهم من المدارس لإعانتهم في المصاريف بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة، باتوا اليوم يعبرون عن حسرتهم وغضبهم لعدم قدرتهم على إرسال أولادهم إلى المدارس»، لافتة إلى أن «الأوضاع تتطور من سيئ إلى أسوأ، فبعد النزوح من التعليم الخاص إلى الرسمي، بتنا اليوم في أزمة تسرب مدرسي تتفاقم كل عام».
وضع كارثي
وتتحدث «يونيسف» عن حلقة مفرغة تضم التعليم، وعدم المساواة، والصراع العنيف. يرتبط عدم المساواة في أبعاد عدة بزيادة احتمال نشوب صراع عنيف. بدوره؛ يرتبط الصراع العنيف بفقدان التعليم وعدم المساواة في التعليم. وهذه كلها عوامل متوفرة عندما نتحدث عن أطفال سوريا؛ سواء اللاجئون وأولئك الذين يعيشون داخل سوريا.
وتشير «المديرة الإقليمية للإعلام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» في منظمة «اليونيسف»، جولييت توما، إلى أن «ظاهرة التسرب المدرسي ظاهرة إقليمية تعاني منها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، لافتة إلى «وجود 15 مليون طفل خارج المدارس في هذه المنطقة».
أما فيما يتعلق بسوريا ولبنان، ففيما تصف الوضع التعليمي في صفوف الأطفال السوريين بـ«الكارثي» بحسبان أن نصفهم خارج المدارس، تشير إلى «احتمال أن تكون ظاهرة التسرب المدرسي بدأت بين الأطفال اللبنانيين مع تفاقم الأزمة المالية – الاقتصادية… إلا إنه لا إحصاءات تدعم هذه الترجيحات، كما لا يمكن الحديث لا شك عن تسرب هائل».
وتوضح توما في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «هذه الظاهرة مرتبطة في الأساس بفقر العائلات، والنزاعات المسلحة، وجودة التعليم، والعنف المدرسي (سواء بين الأطفال، ومن قبل المدرسين)»، لافتة إلى أن «هذه الأزمة تتفاقم عادة بين اللاجئين السوريين في لبنان لأكثر من سبب؛ سواء نتيجة الفقر الذي تعاني منه العائلات فتضطر إلى أن ترسل الأطفال إلى العمل، وبسبب عدم قدرتها على دفع ثمن المواصلات. كما أن مساحة الصفوف في المدارس في لبنان غير مهيأة لتستقبل الكم الهائل من التلامذة رغم الجهود التي تبذلها السلطات اللبنانية لاستقبال أكبر عدد من الأطفال السوريين».
وتشير توما إلى أنه «بسبب طول الأزمة، خسر أطفال سوريا 10 أعوام من التعليم؛ أي بمعنى آخر خسروا مستقبلهم نتيجة خسارتهم عقداً كاملاً من التعليم، مما يجعل من الصعب جداً تعويض الدراسة، من هنا أهمية تركيز الجهود حالياً على كيفية مساعدتهم بالانخراط في سوق العمل وتهيئتهم ليصبحوا أصحاب مهن من خلال تأمين التدريب الصحيح لهم والمساعدة في الحصول على الكفاءات والمهارات».
وتوضح توما أنه «في لبنان، أثرت أزمة (كورونا) كثيراً على الوضع التعليمي؛ لأنه رغم المحاولات الجدية لـ(التعليم أونلاين)، فإن الوضع الكارثي للطاقة والإنترنت جعل هذا الأمر تحدياً كبيراً، ونحن نعتقد أنه في بعض الدول؛ من بينها لبنان، ما بين 30 في المائة و40 في المائة من التلامذة غير قادرين على الاستفادة من خدمة (التعليم من بُعد) بسبب الفقر الرقمي».
وتشدد توما على وجوب «وضع التعليم أولوية رغم الأزمات والحروب، فتماماً كما أن تأمين الغذاء والاستشفاء أمر أساسي في الظروف الصعبة، كذلك يجب أن يكون تأمين التعليم والذهاب إلى المدرسة بوصفه يساهم في تعزيز الصحة النفسية للطفل؛ لأنه يؤمن له الأمان ومكاناً للترفيه»، عادّةً أن «ذلك لا يحصل فقط من خلال تأمين أموال إضافية؛ إنما من خلال زيادة عدد المدرسين وانخراط عدد أكبر من ذوي الكفاءات في المسيرة التعليمية، والتشديد على اكتساب المهارات وتهيئة الطلاب للدخول في سوق العمل؛ لأن المناهج القائمة حالياً في كثير من البلدان مسبب رئيسي للبطالة».
سياسات متشددة لتعليم السوريين
ومطلع شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، انتقدت منظمة «هيومن رايتس ووتش» بشدة ما قالت إنها سياسات معتمدة في لبنان تمنع أطفال اللاجئين السوريين من الوصول إلى التعليم، لافتة إلى أن وزارة التربية تشترط حصولهم على سجلات تعليمية مُصدقة، وإقامة قانونية في لبنان، وغيرها من الوثائق الرسمية التي لا يستطيع معظم السوريين الحصول عليها.
وتوضح ليزا أبو خالد، المتحدثة باسم «مفوضية اللاجئين» في لبنان، لـ«الشرق الأوسط» حقيقة ما يجري، لافتة إلى أن «المدارس الرسمية الابتدائية للأطفال اللاجئين مجانية، وأنه يتوجب الإبلاغ فوراً عن أي مدرسة تطلب رسوم تسجيل». مضيفة: «هناك تكاليف مرتبطة بالتعليم، مثل الزي المدرسي والكتب والملابس الشتوية والقرطاسية، والتكلفة الأهم هي لوسائل النقل التي تشكل حاجزاً أمام اللاجئين ليكونوا قادرين على تحمل تكاليف الذهاب إلى المدرسة والإياب منها، لا سيما في وقت يعيش فيه 9 من أصل 10 لاجئين سوريين تحت الفقر المدقع».
وتشير أبو خالد إلى أن البيانات الأولية من التقرير السنوي لتقييم جوانب الضعف لدى اللاجئين السوريين في لبنان لهذا العام، أظهرت أن تكلفة المواد، وتكلفة النقل، كما الخوف من «كوفيد19»، تليها الحاجة إلى العمل، أكبر العوائق أمام التعليم ضمن الفئة العمرية من 6 أعوام إلى 14 عاماً. وتقول: «النقل يمثل بالفعل عائقاً كبيراً؛ حيث يمكن أن تصل تكلفته إلى 25 ألف ليرة لبنانية لكل طفل يومياً في مناطق معينة».
مخاطر التسرب
وتشير الدكتورة باسكال مراد، الاختصاصية في علم النفس والاجتماع، إلى أن «الطفل خارج المدرسة مهدد بالدرجة الأولى؛ لأنه في معظم الأوقات على الطريق حيث يكون معرضاً لسوء معاملة معنوية وجسدية؛ كما في بعض الأحيان لتحرش جنسي واغتصاب، أضف أنه على الصعيد النفسي يعيش يأساً من المستقبل، خصوصاً في حالة المراهق؛ حيث يشعر أن أحلامه تنهار». وتنبه مراد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى «أننا بذلك نؤسس لجيل ضائع معرض لكل أنواع الآفات؛ من المخدرات إلى العنف وجرائم السرقة والقتل، مما يجعله مهدداً وفي الوقت عينه يهدد مجتمعه».
وتعدّ مراد أن «الأخطر من كل ما سبق أن ظاهرة التسرب المدرسي تتزامن مع خلل في النظام التربوي والمدرسي في لبنان، فبعدما كنا نتميز عن دول المنطقة في نظامنا التعليمي المتطور، بتنا اليوم نشهد تراجعاً كبيراً فاقمه التعليم من بُعد الذي أدى إلى كثير من المشكلات النفسية نتيجة العزلة التي عاشها الأطفال في منازلهم بسبب (كورونا)»، مضيفة: «نحن إذن بصدد أجيال ضعيفة غير متمكنة وغير متعلمة تعيش في دولة تشهد تفككاً غير مسبوق على المستويات كافة… وهنا الخطر الكبير».