لعلّ دروز لبنان أكثر مَن ينطبق
عليهم العنوان الذي أطلقه موقع
“أساس” على العام 2022: “عام
الارتباك”. إنّها جماعة تعيش حال
قلق وارتباك تاريخية. بدأت مع نهاية
الإمارة المعنيّة، وتتجدّد مع نهاية
كلّ مرحلة سياسيّة وبداية أخرى
.
منذ العام 2019 توالت أحداث
مفصليّة في الحياة السياسيّة
اللبنانيّة: “17 تشرين 2019″، الانهيار
الاقتصادي والماليّ والاجتماعي السريع،
انفجار مرفأ بيروت. وآخر هذه
الأحداث خروج سعد الحريري وتيّار
المستقبل من المشهد السياسي (مؤقّتاً)،
الذي يشير إلى مرحلة سياسية جديدة
تشبه إلى حدٍّ بعيد مرحلة ما بعد اغتيال
رفيق الحريري (2005)، كما قال وليد
جنبلاط نفسه، وهو ما يزيد من
قلق الدروز على مستقبلهم ومستقبل لبنان.
بيك المختارة من أوائل السياسيين
الذين التقطوا رسالة الناس في
“17 تشرين”. دعا المنظومة الحاكمة
إلى التعامل بجدّيّة مع مطالبهم. لم يتجاوبوا.
صارح “ناسه”. كان جريئاً. قال
لهم إنّ “مرحلة الرخاء” ذهبت إلى غير
رجعة وإنّنا ذاهبون إلى مرحلة “أكثر
صعوبة”. وطلب منهم “التكاتف
والتضامن الاجتماعيّين”. وبالفعل
حوّل الحزب الاشتراكي إلى مجموعة
خلايا أزمة لمساعدة أبناء
الجبل على الصمود: حصص غذائية، أدوية،
دفع الأقساط المدرسية والجامعية
للطلاب العاجزين. وخصّص أيضاً مبالغ
كبيرة ليس لدعم مستشفيات
الجبل فقط، بل ومستشفيات
عريقة في بيروت تضرّرت بانفجار 4 آب.
سقوط لبنان؟
يتعدّى قلق وليد جنبلاط الانهيار
الاقتصادي والماليّ والضائقة
الاجتماعية إلى سقوط لبنان. وهو
قال صراحة، في مقابلته مع مارسيل
غانم الأخيرة، إنّ الإيرانيين دمّروا الكيان
اللبناني. وهذا يشير إلى الذهاب نحو
لبنان جديد سيخسر فيه الدروز بعضاً
من دورهم وحضورهم السياسيَّين كما
خسروا في كلّ تحوّل سياسي
شهده جبل لبنان منذ القرن التاسع عشر.
فنظام القائمقاميّتين (1842-1860) قسّم
السلطة بينهم وبين الموارنة. ونظام
المتصرّفية (1861-1918) أعطى
الرئاسة إلى مسيحي غير لبناني.
وفي “لبنان الكبير” أصبحت للموارنة،
منافسيهم في جبل لبنان، مع صلاحيّات
واسعة ونفوذ ومراكز أساسية في الدولة.
ثمّ كان اتّفاق الطائف الذي عزّز سلطة
السُنّة والشيعة. أمّا الدروز فبقي مجلس
الشيوخ الذي وُعِدوا برئاسته حبراً على
صفحات الدستور. لذلك كتب عبّاس
الحلبي (وزير التربية الحالي) في العام
2006 في كتابه “الموحّدون الدروز: ثقافة
وتاريخ ورسالة”، أنّ الدروز “يراكمون
العجز والتآكل التدريجي لسلطتهم في الجبل”.
قبل المتابعة، نودّ التوضيح أنّ الكلام
عن القلق عند وليد جنبلاط على
أنّه قلق الدروز يعود إلى أنّ زعيم
المختارة هو الممثّل الأوّل لهم منذ
عقود في مقابل التراجع الكبير لزعامة
آل أرسلان. أمّا وئام وهّاب، المدعوم
من دمشق وحزب الله، فلم يستطِع
أن يشقّ الطريق لزعامة جديدة في
الجبل. وهو لا يستطيع فعل ذلك
في جماعة تقليدية ذات تركيبة
مجتمعية – سياسية هرميّة
على رأسها الزعيم السياسي.
7 عناوين للقلق
أما قلق الدروز وزعيمهم الأوّل
فعناصره كثيرة، منها ما هو
مزمن، ومنها ما هو جديد
وطارئ، وهي سبعة:
1- وليد جنبلاط قلق جدّاً من
سلخ لبنان عن عالمه العربي وتحويله
إلى “هانوي إيرانية” (بحسب تعبيره)،
ليس فقط بسبب الانهيار الاقتصادي
والاجتماعي ولا بسبب أهداف سياسية
ضيّقة، إنّما لأسباب تتعلّق بالهوّيّة
العربية للدروز. فالدرزيّة نشأت في العالم
العربي. ولم تنتشر خارجه على خلاف
باقي الأديان. لذلك كتب عبّاس الحلبي
في كتابه: “الموحّدون الدروز عرب أقحاح
برابطة الدم والعقليّة والنضال”. وهذا
ما يثبته تاريخ “بني معروف” في هذا
الشرق العربي الذي التزموا
قضاياه وحاربوا من أجلها.
2- غياب الغطاء السياسي الإقليمي
للدروز بسبب هيمنة حزب الله على
البلاد وتراجع الدور العربي… يشكّل
مصدر قلق كبير لزعيم المختارة. في
الماضي وفّرت الناصرية الغطاء السياسي
لوالده كمال جنبلاط. ثمّ سعى هو
للحصول على الغطاء السوري، مع علمه
أنّ نظام الأسد اغتال والده. بعد خروج
الجيش السوري من لبنان حصل جنبلاط
على الغطاء السياسي الأميركي والفرنسي،
لكن لمدّة قصيرة انتهت بعد تعويم بشّار
الأسد. بعد 7 أيار 2008 كان الغطاء
السياسي السعودي “موسميّاً” إلى
أن فُقِد نهائياً بعد انتخاب ميشال
عون رئيساً للجمهورية. من هنا
ما نسب إلى جنبلاط مؤخراً عن تخلّي
السعودية عن لبنان وتركه فريسة لإيران.
3- الانتخابات النيابية المُقبلة
مصدر قلق كبير لجنبلاط، خاصة بعد
قرار سعد الحريري تعليق عمله
السياسي هو وتيار المستقبل. إذا كان
انقسام المسيحيين بين القوات
والتيار يصبّ في مصلحة حفاظه
على كتلة نيابية وازنة، فإنّ انقسام
السُنّة وتشرذمهم يشكّل خطراً على
نفوذه في منطقته، بخاصّة
في الشوف والإقليم.
4- لدى زعيم المختارة هاجس من
عودة التوتّر والصراع بين الدروز
والموارنة. من هنا حرصه على مصالحة
الجبل التي أبرمها مع البطريرك
الراحل نصرالله صفير وجدّدها مع
البطريرك بشارة الراعي. لذلك لم يصعّد
ضدّ ميشال عون الذي حاول في
الماضي نبش القبور بكلامه
عن أجراس الكنائس.
5- تحصين البيت الدرزي الداخلي
هو قلق درزي منذ أن اعتمد نظام
دمشق سياسة “فرّق تسُد” بين أبناء
الطائفة الواحدة، ويستمرّ بها حزب الله.
من هنا حِرص وليد جنبلاط، كما طلال
أرسلان، على تفادي أيّ إشكال أمنيّ
بين مناصريهما، وتطويقه إذا ما وقع،
والسعي إلى إقامة المصالحات بين
العائلات. وهذا ما فعلاه بعد
الإشكالات التي وقعت في خلدة والشويفات
6- وليد جنبلاط قلق على وراثته
السياسية على الرغم من أنّه ألبس
عباءة الزعامة لنجله تيمور في
الذكرى الأربعين لاغتيال والده في
العام 2017. لكنّ هذا الأخير، كما أصبح
معروفاً لدى “بني معروف” وغيرهم،
لا يحب السياسة ولا يرغب في الزعامة.
هذا ما أجبر وليد جنبلاط على البقاء في
رئاسة الحزب، وعلى العودة إلى التعاطي
في تفاصيل الحياة السياسية للدفاع عن
الدروز ومصالحهم. إصرار وليد جنبلاط
في مقابلته الأخيرة مع مارسيل غانم
على القول أكثر من مرّة إنّه ينسّق
مع تيمور، وسيرى مع تيمور، و…
كان لدحض الأخبار التي انتشرت في
الأسابيع الأخيرة عن احتمال
اعتزال تيمور الزعامة والسياسة.
7- يبقى القلق الديموغرافي الذي
هو قلق تاريخي لدى الدروز. تجربتهم
مع الموارنة في جبل لبنان منذ
القرن الثامن عشر علّمتهم الكثير.
فبعدما كانوا أكثريّة في جبل لبنان
أصبحوا أقليّة صغيرة في “لبنان الكبير”.
وساهمت موجات الهجرة، التي بدأت في
النصف الثاني للقرن التاسع عشر
واستمرّت في القرن العشرين، في تراجع
عددهم بشكل كبير. ويخشى الدروز اليوم
الديموغرافيا الشيعية في مناطقهم، بخاصة
في عاليه وساحل الشوف. ويقلقون من
موجة هجرة جديدة بسبب
الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة.
إنّه قدر الدروز أن يعيشوا في
قلق دائم. لكنّهم صامدون في الجبل.
لا يستسلمون. أكّد ذلك وليد جنبلاط
بعد قرار سعد الحريري
الأخير: “لن نقفل باب المختارة”.
د. فادي الأحمر – اساس ميديا
للمزيد من الاخبار الرجاء الضغط على الرابط التالي
https://beirut-elhora.com/category/%d8%a7%d8%ae%d8%a8%d8%a7%d8%b1-%d9%85%d8%ad%d9%84%d9%8a%d8%a9/