“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
لم يعد الكلام يكفي، بات وفي ضوء سياسة التكاذب الممنهجة الدافعة نحو تخلّي لبنان عن حقوقه، أن يكون الكلام مثبتاً بالحقائق والوقائع. لقد استُهكلت كلّ التحذيرات و النصائح من مغبّة الإستمرار في سياسة استغباء الناس والسير في ركب الصفقة الأميركية، وبالتالي بات من الواجب اليوم سرد بعض التفاصيل، الحقائق –أو الفضائح- التي تكشف ضلوع ساسة الدولة ليس في سياسة البيع فقط، بل و تبنّي وجهات النظر المعادية وإسقاطها على شكل أفكارٍ من إنتاج العقول اللبنانية.
نعم صحيح، لقد تراجع الساسة الكبار بجميعهم عن الخطّ 29 لمصلحة الخطّ 23 المشبوه، لكن هل سأل أحدٌ عن أصل وفصل هذا الخطّ الذي ننعته عادةً بالخطّ المشوّه الذي لا أساس تقنياً له، أو الذي لا يُتاح الدفاع عنه في أي مجال؟ لنبدأ.
تعدّدت الروايات حول كيفية رسم الخطّ 23 الذي أودعه لبنان لدى الأمم المتّحدة مرّتين. الرواية الرسمية الأولى، تقول بأنّ الخطّ 23 هو بمثابة خطّ وسط، أي خطّ المنتصف الذي تكون كل نقطة على طول امتداده، متساوية الأبعاد من أقرب نقطة على خطّ الأساس للبنان وللدولة المجاورة، وهذا ما نصّ عليه البند الرابع من تقرير اللجنة المشتركة التي شُكّلت بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 107/2008 تاريخ 30/12/2008 وتعديلاته والتي انتهت الى ترسيم حدود المنطقة الإقتصادية الخالصة اللبنانية ومنها الخطّ 23 وذلك بتاريخ 29/4/2009 وقد تمّ التأكيد على هذه النظرية في رسالتين وُجّهتا عام 2011 الى الأمين العام للأمم المتحدة من قبل وزير الخارجية اللبناني، ونصّتا على أن النقطة 23 هي النقطة الثلاثية المتساوية الأبعاد بين لبنان وفلسطين وقبرص.
(تقرير اللجنة المشتركة – مستند رقم 1)
لكن سرعان ما أثبتت الدراسات التقنية المحلية والدولية عدم صحّة هذه الرواية وعدم اتباع الخطّ 23 لتقنية خطّ الوسط التي نصّ عليها القانون الدولي. ومن أبرز هذه الدراسات، تقرير المكتب الهيدروغرافي البريطاني UKHO لعام 2011 والذي بيّن بشكلٍ واضح، أن الخطّ 23 يقع حوالي 7 كلم جنوب الخطّ الوسطي البحت، أي خطّ الوسط الذي يعتمد على الجزر الساحلية الفلسطينية كنقاطٍ أساس والذي اقترحه الوسيط الأميركي السابق فريدريك هوف كحلّ للنزاع، كما يقع كذلك حوالي 9 كلم شمال الخطّ الوسطي الذي لا يعطي أي تأثير لهذه الجزر والمعروف اليوم بالخطّ رقم 29 الذي تبنّاه الجيش اللبناني واعتمده الوفد المفاوض في الناقورة.
(خريطة ال UKHO – مستند رقم 2)
وعندما كُشِفَ أمر عدم تطابق الخطّ 23 مع خطّ الوسط، سواء أُخذت الجزر بعين الإعتبار أم لا، اضطرّت الجهات الرسمية المولجة ملف ترسيم حدود لبنان البحرية إلى الإتيان برواية ثانية، فبدأت تروّج لنظرية أن الخطّ 23 هو خطّ وسط فقط في المياه الإقليمية. أما في المنطقة الإقتصادية الخالصة، فهو خطّ عامودي على الإتجاه العام للشاطئ المتمثّل بالخطّ الذي يربط نقطة رأس بيروت بنقطة رأس حيفا، ممّا يفسّر انحراف الخطّ 23 جنوباً بالمقارنة مع الخطّ الوسطي البحت. هذا وقد دُوّنت هذه الرواية بوثيقةٍ رسمية صادرة بتاريخ 7 حزيران 2012 متمثّلة بتقرير “اللجنة المشتركة لوضع تقريرٍ مفصّل حول الحدود البحرية للمنطقة الإقتصادية اللبنانية الخالصة” التي كان قد تمّ تشكيلها بقرارٍ من رئيس مجلس الوزراء حينها.
لكن وبعد التدقيق من قبل خبراء تقنيين دوليين ومحليين، لا سيّما في الجيش اللبناني، تبيّن أن الخطّ 23 لا يتطابق أبداً مع الخطّ العامودي للإتجاه العام للشاطئ، إذ أن الخطّ العامودي للخطّ الذي يربط رأس بيروت برأس حيفا يقع شمال الخطّ 23، وبين هذا الأخير والخطّ الوسطي البحت المعروف بخطّ هوف. أي بمعنى آخر إن الخطّ العامودي المُشار إليه، يعطي لبنان مساحةً أقلّ من ال860 كلم2 التي يؤمّنها الخطّ 23.
ومع انكشاف هذه المسألة، تمّت مواجهة المعنيين الرسميين آنذاك بهذه الوقائع العلمية، فاضطرّوا إلى “بقّ البحصة” والإعتراف بأنّ بدعة الخطّ العامودي هي مجرّد “ترقيعة” أتت كي تُخفي حقيقةً مرّة وهي أنّ الخطّ 23 رُسّم عشوائياً واعتباطياً، فظهرت الرواية الثالثة المعروفة بـ”دفشة السنيورة” ، التي نشأت أساساً عن مطالعة أودعت لدى رئيس الحكومة آنذاك فؤاد السنيورة، فأوعز بدفع الخطّ نحو الجنوب وحصل ذلك إلى مسافة 7 كلم تقريباً، فنشأ الخطّ 23.
لاحقاً ومع التطور الذي طرأ على الملف بظلّ دخول خبراء لبنانيين إليه، بدأ المسار التصحيحي إنطلاقاً من دراسة العقيد الركن البحري مازن بصبوص عام 2013، مروراً بانشاء مصلحة الهيدروغرافيا في الجيش اللبناني عام 2014 ومسحها لشاطئ رأس الناقورة عام 2018 ووصولاً الى دراسة قيادة الجيش لعام 2020 التي ساهم بها الخبير القانوني نجيب مسيحي، والتي أكدت على صوابية الخطّ 29 كحدّ جنوبي للمناطق البحرية اللبنانية.
وخلال تلك الفترة، كان العمل يتمّ بعيداً عن الإعلام وصولاً إلى تشرين الأول 2020 ساعة انطلقت المفاوضات غير المباشرة في الناقورة وأعطيت التوجيهات للوفد المفاوض بالإنطلاق بالتفاوض من الخطّ القانوني والتقني الصحيح رقم 29. فرح الخبراء والمراقبون وظنّوا بارتياح أن الخطّ العشوائي
والبائد رقم 23 قد تمّ تجاوزه إلى غير رجعة. لكن وللأسف، عاد في الأيام الماضية،
الحديث عن هذا الخطّ على لسان بعض المسؤولين الكبار في الدولة.
دفع ذلك مجموعة خبراء دوليين ومحليين ضنينين بالمصلحة الوطنية اللبنانية،
إلى الإجتماع والعمل سوياً على ملف الترسيم بشكل
عام ومعضلة الخطّ 23 بشكل خاص، فكانت الصدمة والفضيحة الكبرى.
عمل فريق الخبراء إذاً بحرفية ومنهجية وبعد التأكد،
عن طريق اللجوء
إلى برامج إلكترونية متطوّرة كCARIS LOTS و ARC GIS
، من أنّ الخطّ 23 لا يتّبع أي تقنية ترسيم متعارف عليها دولياً، إنتقل إلى دراسة الوثائق والمستندات اللبنانية، فتبيّن له أن إحداثيات
وخرائط الخطّ 23 وُضعت لأول مرّة بتاريخ 29 نيسان 2009 من
قبل “اللجنة المشتركة لوضع تقرير مفصّل حول الحدود البحرية الجنوبية للمنطقة
الإقتصادية اللبنانية الخالصة” التي شُكّلت بموجب قرار صادر عن رئيس مجلس الوزراء.
ولاحقاً، عمل الخبراء على دراسة الوضع الحدودي في الفترة نفسها من الجانب الإسرائيلي،
فتبيّن لهم أنه في ذلك الحين لم تكن إسرائيل قد تبنّت الخطّ 1 بعد، إذ تمّ إقرار هذا
الخطّ وايداعه لدى الأمم المتحدة لاحقاً في شهر تمّوز 2011. لكن وبالرغم من
غياب مزاعم حدودية إسرائيلية رسمية في ذلك الحين،
كانت إسرائيل قد قسّمت الجزء الشمالي من بحر فلسطين المحتلّ المتاخم للبنان
إلى بلوكات نفطية وغازية لا سيّما البلوكين رقم 367 المعروف بـ”ألون د” ورقم 369 المعروف بــ”ألون فـ”.
وسعياً وراء التدقيق تمّ اسقاط الخطّ 23 بإحداثياته الجغرافية
على خرائط
البلوكات الشمالية الإسرائيلية،
لاسيّما خريطة شركة IHS العالمية التي اعتمدت على بيانات وزارة الطاقة الإسرائيلية، فتبيّن أن الخطّ 23 مطابق
تماماً للحدّ البحري الشمالي الذي وضعته إسرائيل لبلوكي «ألون د و ف»
(مستند رقم 3). هذا وقد تمّ التأكّد من هذا المعطى من خلال الإستحصال على خريطة كانت قد وضعتها شركة
Spectrum البريطانية المولجة بالقيام بالمسوحات الزلزالية الثلاثية الأبعاد في
المناطق البحرية اللبنانية، والتي تُظهر هي أيضاً التطابق الكامل
بين الحدّ الشمالي للبلوكات الإسرائيلية والحدّ الجنوبي للبلوكات اللبنانية التي رُسّمت بحسب الخط 23 (مستند رقم 4).
بالإضافة الى ذلك، دقّق الخبراء بإحداثيات البلوك 72 الإسرائيلي والذي
يعتبر وريث البلوك “ألون د” والمطابق بحدّه الشمالي لهذا الأخير، فتطابقت هذه الإحداثيات مع إحداثيات الخطّ 23.
بعد ملاحظة التطابق بين الخطّ 23 والحدّ الشمالي للبلوكات الإسرائيلية،
عمل الخبراء على تحديد تاريخ وضع كلّ من هذين الخطّين. كما أشرنا اليه أعلاه،
من الواضح أن الخطّ 23 قد تمّ رسمه من قبل اللجنة المشتركة بتاريخ 29 نيسان 2009 .
أما بالنسبة الى حدّ البلوكات الشمالية الإسرائيلية، فتشير
الوثائق الرسمية الإسرائيلية الى أنه تمّ تلزيم البلوك
“ألون د” لشركتي Delek و Noble Energy بتاريخ الأول من آذار 2009 أي قبل شهرين من وضع لبنان للخطّ 23 (مستند رقم 5). هذا مع العلم أن
ترسيم حدود البلوكات النفطية يسبق دائماً تلزيمها للشركات المنقّبة،
ممّا يعني أن الحدّ الشمالي لبلوك “ألون د” قد وُضع بالتأكيد قبل 1 آذار 2009.
بذلك، بانت الحقيقة المرّة والصادمة وسقطت كل الروايات السابقة.
كلا، لم يُرسّم الخط 23 عشوائياً، بل رُسّم على أساس الخرائط
والإحداثيات التي سبق واعتمدها العدو لترسيم بلوكاته النفطية الشمالية.
أي بمعنى آخر، الخطّ 23 هو صناعة إسرائيلية بإمتياز وقد سلّم بها لبنان!
وبما أن الخطّ 23 لا يستند الى أي تقنية ترسيم معمول بها دولياً،
تساءل الخبراء عن كيفية رسم إسرائيل لهذا الخطّ وعلى أي أساس،
فأتاهم الجواب بالإستنتاج من الأنشطة الغازية والبترولية الإسرائيلية
في بحر فلسطين المحتلّ. فخلال عام 2008، أنهى العدو مسوحاته الزلزالية الثنائية الأبعاد في المياه الفلسطينية،
وقد شملت المنطقة التي اكتشف فيها لاحقاً حقل كريش الغازي والنفطي
(مستند رقم 6). ومن المرجّح أن تكون قد أظهرت هذه المسوحات وجود مكمن “كاريش”،
لذا،
قرّرت إسرائيل اللجوء
إلى تقنية
المنطقة العازلة Buffer Zone، فاعتمدت كحدّ شمالي لبلوكاتها النفطية خطاً يضع حقل
“كاريش” بكامله داخل المياه الفلسطينية المحتلة بالإضافة الى منطقة عازلة يبلغ عرضها 5 كلم من شأنها
أن تجعل هذا الحقل بمأمن من أي عراقيل، فاستُحدث الخطّ 23.
بالتأكيد، كانت تتوقع تل أبيب أن يقوم لبنان بالمطالبة بكامل حقوقه البحرية
أي بالخطّ 29 أثناء أعمال اللجنة المشتركة في العام 2009 وذلك بعدم إعطاء
أي تأثير لصخرة “تخيلت”، لذا كان الخطّ 23 بالنسبة لها خطاً متقدّماً.
لكن في ما بعد تفاجأت بتساهل الجانب اللبناني واعتماده للخطّ الذي وضعته هي
كحدّ أقصى لطموحها البحري. لذا، طمع بعدئذ الإسرائيلي فقرّر بعد سنتين اعتماد
الخطّ رقم 1 بغية التراجع لاحقاً إلى خطّ هوف المجحف بحق لبنان، ناقلاً بذلك النزاع إلى عمق البحر اللبناني.
بناءًعلى ما تقدّم، تحتّم هذه الفضيحة الكبرى على الدولة اللبنانية سلوك مسارين متوازيين:
أولاً، مسار المساءلة تمهيداً للمحاسبة. فعلى السلطات اللبنانية القيام فوراً
بالتحقيق مع أعضاء اللجنة المشتركة التي وضعت الخطّ 23 عام 2009 وهم: عبد الحفيظ القيسي، سركيس حليس،
باخوس باخوس، إيلي الكك، جوزف سركيس، نزيه الجبيلي، حسان شعبان،
آرا خجاطوريان، غالب فاعور ووسام الذهبي. من حقنا أن نعرف كيف
انتهى الأمر بهذه اللجنة باعتماد خطّ حدود مطابق للخطّ الذي سبق وتبنّاه العدو الإسرائيلي لأهداف تحافظ على مصالحه.
ثانياً، مسارٌ سياسي تصحيحي يبدأ بسحب الخطّ 23 المشؤوم والمشبوه من سجلّات الأمم المتحدة،
ومن ثم طرح مسألة ترسيم حدود لبنان البحرية على طاولة مجلس الوزراء وعرض كافة الدراسات
بما فيها تقرير لجنة التفاوض، لاتخاذ الإجراءات الضرورية التي بات يعرفها القاصي
والداني أي تعديل المرسوم 6433 واعتماد الخطّ 29 وايداع خرائطه وإحداثياته
لدى الأمم المتحدة، كي تستكمل المفاوضات على أسسٍ قانونية وتقنية سليمة تحفط حقوق لبنان وشعبه بثرواته الطبيعية.
المستند رقم 1
https://drive.google.com/file/d/1ZWat9lHrIqmU4u7SckFwYwUxamV8fWFe/view?usp=sharing
المستند رقم 2
https://drive.google.com/file/d/1cDvW_j7QANss9xP53xLQ5mdzVhuuEPs_/view?usp=sharing
المستند رقم 3
https://drive.google.com/file/d/1UK5m5CLFKExzaI-xB70kT3G1LsSNhMDl/view?usp=sharing
المستند رقم 4
https://drive.google.com/file/d/1FYo4dTkQ7dVU4cHsc-hW0CgBbFMC1xSB/view?usp=sharing
المستند رقم 5
https://drive.google.com/file/d/1Jpq1NDkwRN7WR0hY9ScN_trbmxUEHip4/view?usp=sharing
المستند رقم 6
https://drive.google.com/file/d/1dvS0g4FKMYiWpcnSEcXNCLeqtS_bEY1D/view?usp=sharing
تقرير اللجنة المشتركة حول الحدود البحرية للمنطقة الإقتصادية اللبنانية الخالصة بتاريخ 29 نيسان 2009
https://drive.google.com/file/d/1LUrHRDJG__ATwqOf6fEZoUlNqKK5_Ir9/view?usp=sharing
تقرير اللجنة المشتركة حول الحدود البحرية للمنطقة الإقتصادية اللبنانية الخالصة بتاريخ 7 حزيران 2012
https://drive.google.com/file/d/1WInwwgdXT7vjlQ_WE1OPPwntTXekpAXx/view?usp=sharing
(تقرير اللجنة المشتركة – مستند رقم 1)
(خريطة ال UKHO – مستند رقم 2)
(مستند رقم 3)
(مستند رقم 4)