تمعن السياسات المصرفية
المتبعة منذ بداية الأزمة
في تحويل الاقتصاد اللبناني
إلى cash economy أو اقتصاد
نقدي. البطاقات الإئتمانية
تحولت إلى زيادة عدد في
حافظات النقود، المعاملات
الرقمية الداخلية توقفت،
والغبار «أكل» ماكينات الدفع
POS في المحلات والمتاجر.
وبدلاً من مكافحة هذه الظاهرة
المشجعة على أسوأ الأفعال
المالية، يغض مصرف لبنان
الطرف عن ممارسات البنوك
تاركاً القطاع المصرفي
والاقتصاد يتحولان إلى
«حارة كل مين أيدو إلو».
في هذه «الحارة» لا
يتبارى الأبطال المتمثلون
بـ»المركزي» والمصارف
على حب المودعين، إنما
على اقتناص جنى عمرهم وراحتهم والاستمرار في إذلالهم. ومكائدهم ليست بريئة ولا مضحكة إنما موجعة حد الموت.
قبل مدة عمدت المصارف إلى تقليص السحوبات النقدية من الحسابات الفردية والتجارية إلى الحد الأدنى. فمنعت المؤسسات من تحويل ما في حساباتها إلى حسابات موظفيها لتسديد الرواتب والأجور، فارضة «خوات» وصلت إلى حدود 15 في المئة من المبلغ المحول. فما كان من الكثير من الشركات إلا الاستغناء عن توطين الرواتب، ووقف كل أشكال استقبال المدفوعات عبر بطاقات الاعتماد سواء كانت مدينة أو دائنة. فليس من مصلحتها تحرير أموال عملائها من المصارف وحجز أموالها ومستحقاتها.
في المقابل استمرت بعض المؤسسات باستقبال البطاقات، ولا سيما منها محطات المحروقات (يوجد قرابة 3200 محطة على مختلف الاراضي اللبنانية) إلى أن توقفت مطلع هذا الشهر جميعها عن استقبال البطاقات. فعلى الرغم من مخاطر التداول النقدي بالاموال، تبقى هذه العملية أخف كلفة بما لا يقاس مع ما يجري في المصارف. فمؤسسات «فيزا» و»ماستر» المصدرة للبطاقات تتقاضى عمولة بين 1.5 و2.5 في المئة بحسب الشركة، والأموال المتأتية من المدفوعات تحتجز في المصارف ولا يمكن اعادة تحويلها إلى الشركات الموردة أو حتى سحبها نقداً. وفي حال وافق المصرف على سحب كمية كبيرة فمقابل عمولة تصل إلى 15 في المئة»، يقول عضو نقابة المحطات جورج البراكس. وهذا ما يتطلب حلاً عاماً من المصارف والمؤسسات المعنية، كأن تسمح للمحطات ومؤسسات البيع بالتجزئة باسترجاع المبالغ التي تدفع بالبطاقات.
مشكلة الدفع النقدي تفاقمت بشكل كبير مع اضطرار المواطنين إلى حمل مبالغ طائلة لتسديد ثمن أبسط الاحتياجات. فتعبئة سيارة كبيرة قد تتطلب دفع مبلغ يتجاوز 2 مليون ليرة، فيما دخول الـ»السوبرماركت» يكلف ما لا يقل عن 5 ملايين ليرة. و»هذا الواقع فاقم المخاطر بشكل هائل»، بحسب البراكس، فـ»عدا عن أن طريقة الدفع النقدي متخلفة ورجعية وقد تجاوزتها الدول بمراحل، وأصبحت المدفوعات تتم من الهاتف أو حتى بسوار حول اليد، فهي تعرّض المؤسسات لخطر الأموال المزورة. كما أن استقبال الأموال، وعدها، والتدقيق بها، وحفظها في الخزنات ونقلها، يتطلب فريقاً بحد ذاته وتجهيزات لوجستية. وهو ما يرفع أيضا الأكلاف على المؤسسات. في حين أن القبض كان يتم بالبطاقات، وتسديد ثمن المشتريات بالشيكات. و»هاتان الوسيلتان فقدناهما بشكل شبه كلي»، يقول البراكس. «الأمر الذي ينعكس مزيداً من الجمود في الوضع الاقتصادي».
عدم التحول إلى الاقتصاد النقدي يتطلب عنصرين أساسيين: الاول يتعلق بتوفر البنى التحتية للمعاملات الرقمية. والثاني، تخفيض رسوم معاملات الدفع بالوسائل غير النقدية وتشجيع الاستعمال وتذليل مختلف العقبات المادية. والعنصران لم يعودا متوفرين في لبنان». إلا أن الصادم في ما يتعلق بالسياسات المتبعة «أننا لا نملك أيضاً مقومات الاقتصاد النقدي»، برأي الخبيرة الاقتصادية د. ليال منصور. و»ذلك بسبب وجود قيود على السحوبات النقدية بالليرة اللبنانية. وهذه القيود ليست محصورة بالتجار فحسب، إنما أيضاً بالموظفين الافراد الذين يعجزون عن سحب رواتبهم بالليرة دفعة واحدة. وكأنه، بنظر المسؤولين عن السياسة النقدية، أن كل لبناني يمتلك تحت فراشه، كمية من الدولارات عليه بيعها لتأمين أكلاف معيشته».
التخبط في السياسة النقدية «يصعّب احتساب الكتلة النقدية بالليرة، ومراقبتها ويشجع على الفساد»، من وجهة نظر منصور. و»هو لا يتعارض فقط مع مزاعم الاصلاح الضريبي وخفض نسب الفساد، إنما أيضاً مع كل النظريات الاقتصادية التي تحصر فرض القيود على العملة الأجنبية للحد من الدولرة في الأزمات النقدية وليس العملة المحلية. بما يؤكد أن عدم الرغبة في امتلاك العملة اللبنانية لم يعد نظرياً إنما أصبح فعلياً».
هذا الواقع كان ليخلق سعرين للعملة الوطنية، الأول حقيقي لليرة النقدية. والثاني أقل منه لليرة البنكية (بيرة)، لكن «مع الاتجاه نحو وقف التعامل كلياً بشيكات الليرة، فان الأمر لن تعود له أهمية تذكر»، من وجهة نظر منصور. أمّا عن الأسباب التي تدفع «المركزي» إلى إرباك السوق والمؤسسات والأفراد على حد سواء، فتعللها منصور بـ»العمل على امتصاص أكبر قدر ممكن من الليرة للحد من التضخم. هذا ما يبرز من خلال تراجع الزيادة في الكتلة النقدية بالليرة من حدود 6 في المئة في كانون الأول 2021 إلى 1.5 في المئة في كانون الثاني ومن ثم إلى 0.4 في المئة في شهر شباط الفائت».
سياسة مصرف لبنان الهادفة إلى خفض التضخم من خلال تقليص الكتلة النقدية بالليرة، والحد من السحب بالعملة الوطنية، وإلزام المواطنين بتسييل ما بحوزتهم من دولارات صعّبت الأمور أكثر على المواطنين ولم تنفعهم. فعلى الرغم من انخفاض سعر صرف الدولار لم يزدَد الاستهلاك ولم يتحسن الاقتصاد، بل على العكس تفاقمت الأوضاع سوءاً.
للمزيد من الأخبار الرجاء الضغط على الرابط التالي