لا يمكن وصف ما طلبه المصرف المركزي القبرصي من فروع المصارف اللبنانيّة العاملة في الجزيرة، بأقل من عبارة “الطرد المهذّب” من السوق القبرصيّة. فأن يُطلب من مصرف ما تأمين احتياطات ماليّة توازي 105 في المئة من قيمة الودائع الموجودة لديه، ومن ثمّ فرض تسديد عمولات سنويّة توازي 5 في الألف من قيمة هذه الاحتياطات، فذلك يعني ببساطة تحويل عمليّات تلقّي الودائع من الجمهور إلى عمليّات خاسرة أو مكلفة، وترتّب على المصرف تجميد قيمة هذه الأموال كاحتياطات، أو تسييل استثمارات لتكوين احتياطات بقيمة مماثلة، بدل أن يقوم المصرف بتوظيف هذه الأموال في عمليّات التسليف المربحة. مع الإشارة إلى أن ركيزة ربحيّة أي مصرف تجاري تكمن في العادة في الفارق بين الفوائد التي يدفعها للمودعين، والفوائد التي يجنيها من التوظيفات وعمليات التسليف.
الاشكالية الأساسيّة تكمن في التوقيت الحسّاس لهذا الطلب، الذي يدخل حيّز التنفيذ خلال أسابيع قليلة، بعد أن تبلّغت المصارف اللبنانيّة ذهاب المصرف المركزي القبرصي في هذا الاتجاه منذ أشهر. فالمصارف اللبنانيّة واقعة أساسًا تحت نير التزاماتها الخارجيّة الكبيرة للمصارف المراسلة، والتي تتجاوز حدود 4.87 مليار دولار، بينما لا تتجاوز مجمل سيولتها الموجودة في الخارج حدود 4.59 مليار دولار. وفي الوقت نفسه، تحتاج المصارف اللبنانيّة إلى هذه السيولة لتأمين نصف قيمة السحوبات النقديّة الشهريّة بالدولار النقدي، التي تجري لمصلحة المودعين حسب التعميم 158، الذي نص على تأمين هذه النسبة من السحوبات من حسابات المصارف في الخارج.
بمعنى آخر، لا تملك المصارف اللبنانيّة في هذه اللحظة بالذات ترف أو قدرة تأمين الاحتياطات التي يطلبها المصرف المركزي القبرصي، ناهيك عن العبء والخسائر التي يمكن أن يسببها التزام المصارف بتأمين هذه الاحتياطات. ولهذا السبب بالتحديد، المعادلة واضحة جدًّا: تطبيق هذا الإجراء، يعني خروج المصارف من جزيرة قبرص بشكل تام. مع العلم أن هذا الطلب بالتحديد تم حصره بفروع المصارف اللبنانيّة في قبرص من دون سائر المصارف المحليّة أو الأجنبيّة العاملة في الجزيرة، حيث استهدف الإجراء تحييد القطاع المصرفي القبرصي عن تداعيات الأزمة المصرفيّة في لبنان.
وبعد فشل المصارف اللبنانيّة في ثني المصرف المركزي القبرصي عن هذا القرار، دخل كل من مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف على خط التفاوض مع المصرف المركزي القبرصي. أولويّة مصرف لبنان واضحة هنا: ففرض تأمين هذه الاحتياطات يعني استنزاف سيولة المصارف اللبنانيّة الموجودة في الخارج، والتي يشترط مصرف لبنان الحفاظ عليها لحسابات ترتبط بملاءة المصارف وقدرتها على ممارسة الحد الأدنى من الأنشطة المصرفيّة. في الأصل، يدرك مصرف لبنان أن تأمين الاحتياطات المطلوبة في قبرص مستحيل بالنسبة إلى الغالبيّة الساحقة من المصارف اللبنانيّة. لكنّ إذا امتثلت لهذا الشرط بعض المصارف اللبنانيّة، التي تملك حجماً متواضعاً من الودائع في فروعها القبرصيّة، فذلك سيكون على حساب ما تبقى من سيولة القطاع المصرفي اللبناني، والتي يريد مصرف لبنان استخدامها في إطار مختلف، وهو ما دفع المصرف إلى التدخّل السريع على خط الأزمة.
خلاصة الأمر، فشل ممثلو مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف في التوصّل إلى تفاهم أو تسوية مع المصرف المركزي القبرصي، رغم طرح الجانب اللبناني سيناريوهات بديلة تمكّن المصرف المركزي القبرصي من تحييد فروع المصارف اللبنانيّة في قبرص عن تبعات الأزمة اللبنانيّة. وفي نتيجة المباحثات الطويلة تبيّين للجانب اللبناني أن الهدف الفعلي لمصرف قبرص المركزي لم يكن سوى إقصاء المصارف اللبنانيّة كليًّا عن المشهد القبرصي، لاعتبارات تتعلّق بالريبة من مستقبل هذه المصارف ومخاطرها الائتمانيّة المرتفعة أولًا، وخوفاً من مخاطر تبييض الأموال المرتبطة بعملها في الاقتصاد اللبناني، المتجه نحو نظام النقد الورقي.
مصادر مصرفيّة تؤكّد أن مصرف لبنان سيتجه خلال الأيّام المقبلة، وقبل دخول القرار القبرصي حيّز التنفيذ، إلى إصدار تعميم يعلن فيه الفشل في التوصّل إلى تفاهم مع الجانب القبرصي على تسوية معقولة. وفي النتيجة، سيطلب مصرف لبنان من المصارف اللبنانيّة، إمّا تصفية أعمالها بشكل
منظم في قبرص، عبر بيع أسهم فروعها هناك، أو الامتثال للإجراء
بلا أن يؤثّر ذلك على سيولتها الموجودة حاليًّا لدى المصارف المراسلة،
أو على موجوداتها الخارجيّة، وهو ما سيتعذّر فعله حتمًا لكونه يتطلّب
ضخ كميّات كبيرة من السيولة من أموال المساهمين الخاصّة.
مصادر مصرفيّة تؤكّد أن الجزء الأكثر حساسيّة في هذا الملف
يتعلق بأموال المودعين اللبنانيين الموجودة في فروع المصارف
اللبنانيّة في قبرص، والتي تم تحويلها في مراحل سابقة لإبعادها
من تداعيات الأزمة الماليّة اللبنانيّة. مع الإشارة إلى أن المصارف اللبنانيّة عمدت قبل العام 2019 إلى فتح
هذا النوع من الحسابات للبنانيين الراغبين بتحويل أموالهم إلى الخارج،
لإبقاء هذه الأموال ضمن نطاق شبكاتها المصرفيّة الأجنبيّة، والحؤول دون تحويلها لمصلحة مصارف أجنبيّة أخرى.
بالنسبة إلى هذه الودائع، من الممكن أن تكون هذه الأموال بمنأى
عن أي تداعيات مقبلة، في حال تمكّنت المصارف اللبنانيّة من عقد صفقات ناجحة لبيع فروعها
في قبرص لمصلحة مصارف أجنبيّة أو قبرصيّة أخرى،
أو في حال دمجها مع مصارف أخرى عاملة حاليًّا في الجزيرة. ففي هذه الحالة،
ستكون النتيجة تحويل هذه الودائع تلقائيًّا إلى حسابات جديدة في
المصرف الدامج في حالة الدمج، أو إبقاؤها في الحسابات
نفسها في حال بيع فروع المصارف اللبنانيّة لمصلحة مصارف
أجنبيّة ترغب بدخول السوق القبرصي. أمّا إذا فشلت المصارف اللبنانيّة
في عقد هذا النوع من الصفقات، فستكون النتيجة الدخول في مرحلة ت
صفية هذه الفروع، ما يفرض على المودع البحث عن مصارف أخرى لتحويل
وديعته إليها. مع العلم أن كثرة من هذه الودائع ترتبط ببعض برامج منح الإقامات الخاصّة،
التي عرضتها قبرص في السابق، وهو ما سيدفع المودعين
إلى البحث عن مصارف أخرى داخل الجزيرة نفسها، لتحويل الودائع إليها.
الخشية الأهم اليوم، ترتبط بإمكانيّة اتخاذ إجراءات مماثلة
بحق المصارف اللبنانيّة في أسواق أخرى، كالسوق الفرنسي مثلًا،
خصوصًا بعد أن تردّد أن المصرف المركزي الفرنسي بدأ بالفعل بدراسة
نوعيّة الاحتياطات التي يفترض أن يتم تكوينها مقابل حسابات المصارف
اللبنانيّة المدينة في فرنسا. فهذا النوع من الإجراءات لن يهدد فقط فروع
المصارف اللبنانيّة العاملة في الخارج، بل مجمل تداولاتها الماليّة مع المصارف المراسلة،
وقدرتها على ممارسة أبسط الأنشطة المصرفيّة المعتادة، كفتح الاعتمادات والحصول على التسهيلات.