“ليبانون ديبايت” – روني ألفا
نُعاني وجَعاً في الخاصرة. تماماً حيثُ يطوِّقُنا الوطن. وجعٌ ينغِّصُ راحتَنا ويقلقُ نومَنا. مبرِّحٌ مثل جرحٍ مُمَلَّح ولَجوجٌ مثل بكاءِ الرُّضَّع. يقتلُكَ وجعُ الوطن. كل الأوجاع الأخرى اخترعوا لها مسكّنات. هذا الآخ بالتحديد متمرّدٌ على أي بروتوكول طبّي.
مِن عوارضِ مرضِكَ أن يسبّبَ لك لبنان ضيقَةَ نَفَس. في زمنِ ندرةِ آلات التنفسِ الإصطناعي يمكن أن تموتَ اختناقاً. تخيّل بلدَكَ يباغِتُك وأنت نائمٌ وبين يديه وسادةٌ غليظةٌ يطبقُ على وجهِك فيها بكل ما ملكت يداه من بأسٍ وقوة. في حالةٍ كهذه تُصبِح معطَّلاً تماماً. ويلُك أن تقتلَ بلدَك دفاعاً عن نفسِك وويلُك أكثر أن تراه يزهقُ روحَك. تبرِّئكَ المحكمةُ إن أنتَ قتلتَ مهاجِمَك دفاعاً عن النفس. أيُّ محكمةٍ تكفُّ عنك التعقّبات إن أقدَمتَ على قتلِ وطن؟
جرَّبنا مع جرحِنا كلَّ شَيْءٍ تقريباً. لبخاتُ وعودٍ طاعنةٍ في الكذب صُنِعَت في لبنان. كؤوسُ الهواء المضغوط. إستنشاقُ بخار النسيان. كمياتٌ من الملح الخَِشِن وأوراق الشاي وضعناها فوق الجرح المفتوح. شاشات معقّمة. مستحضرات أعشاب. لبنان مستعصٍ على الشفاء. وباؤه مستَفحِل. داخلُه جمهوريةٌ متورّمةٌ بالفساد. تشمّعَ كبدُها من ” فَجعَنَة” حُكّامِها. نيرَتُها هي أسلَمُ أعضائِها. طقمُ أسنانٍ وأضراسٍ خلَنج تقضُمُنا كلَّ يوم وتَمضَغُنا وتَبلَعُنا وتَهضُمُنا. وُلِدنا لنُؤكَل ليسَ إلا.
لم نَثُر مرّةً على تُجّار الوطن. كل ما أنجزناه هو حفَرُ نُدوبٍ على أجسادنا مع كلِّ ثورة.
الثورةُ عندنا مثل الغرغرينا. تقطعُ لنا عضواً إضافياً بعد كل إستحقاق. نسلّمُ بيارق الثورة دائماً إلى من ثُرنا ضدَّهم. قريباً سيقنِعُنا سُفّاك دِمائِنا أنهم يثورون ضدّنا لأننا أشرار. سنساعدُهم على اقتِياد أنفسِنا إلى أقرب مسلخ. سيكون ذبحُنا حلالاً.
آخِر مرّة توجَّهنا فيها إلى عيادة طِبّ أوطان نصَحنا الطبيب بالجِراحة. إستئصال بيتُ الرَّحِم لِضَمان عدم الإنجاب. أن تُصبِحَ عاقِراً وطنياً يوفِّر عليك الأوجاع. كل ما عانَينا منه حتى الآن كان عبارة عن حشرجات وطنية من دون ولادة. في كل مرّة كانَ المُواطنُ حامِلاً بالوَطَن كان يُجهِضُ الجَنين بحجَّة التشوّهات الخلقية. أن تُنجِبَ وطناً مشوّهاً يعني أن تَبتَلي به طولَ العمر وتبلي به أولادَكَ وأحفادَكَ من بعدِكَ.
الصّبرُ مفتاحُ الوطن. قيل لنا أن ننتظِرَ لبنان حتى يخرجَ من عمرِ المراهقة.
حتى يبرُدَ دمُه ودمُ حكّامِه. بقيَ الحُكَّامُ مراهِقين. أورثوناً أياماً طائِشَة.
لم نرَ فيها يوماً واحِداً يهدأُ لنا فيه بالٌ وتهنئُ لنا فيهِ إقامَة. عِشنا بين القذيفَةِ وأزيزِ الرّصاص.
صرنا خبراءً في أسماءِ المدافِع وعياراتِها. في زرعِ العبوات بدلَ زرعِ الورود.
أنجَبنا أجيالاً من أسماءِ الحركة. يكفي التلفُّظُ بها لإحداث قشعريرةٍ في
جيلٍ بكامله. أبو الجماجِم كانَ أكثرُها طيبَةً ولياقة.
عندما كان العالَمُ يغنّي مع إديت بياف وفرانك سيناترا وجاك بريل كنّا ننشِدُ
المزامير الحزبية ونؤدي تحيّات الميليشيات وننظّمُ معسكرات التدريب. لم نخجل
من صوت فيروز ولم يردَّنا إلى صوابنا صوتُ وديع الصافي.
حالتنا اليوم باتت معروفة طبياً. حساسية مجهولة المصدر على كل غذاء
يحتوي على أي أثَر من آثار دولة المؤسسات. جسمُنا ممتلئٌ بالميليشيات. مُسمّمٌ بالفساد. متورِّمٌ من الصفقات.
ملتَهِبُ اللوزَتَين من كثرةِ الخِطَب والبيانات الصحفية. تعب مِنّا الصيادلة
في لبنان والمهجر. الكلُّ ينصحنا بأن نُخاوي مرضَنا وأن نعالِجَ أحلامَنا كمواطنين
بالمسكّنات. جرعات مشاريع قوانين. حقنةُ وعود لعهود. لم يعد بالإمكان السيطرة على العَوارِض.
وطنُنا يعاني من سوء تغذية. يخبزُ أحلامَنا من دونِ طحين. الخبّازون لم
يتركوا حبّةَ قمحٍ واحدةٍ في إهراءاتنا. حوّلوها أرصِدة مشفّرةً في جنيڤ وباناما.
تركوا لنا الهيركات والكابيتول كونترول والحَجرِ المنزلي ورغيفَ رجاءٍ يابسٍ في نمليّةِ الإنتظار.
غالباً ما راودتنا فكرةُ الانتحار. رصاصةٌ واحدةٌ من مسدّس سميث أند
ويسون كفيلٌ بنجاح المحاولة. سيتسنى لنا بعدَ دفنِ الفقيد التفتيشُ
عن وطنٍ آخَر. كلّما كنّا نوجّهُ فوهةَ المسدّس على صَدغِنا كان يخرجُ إلينا
رشيد نخله ووديع صبرا. أجّلنا انتحارَنا خمسين سنة. انتَظَرْنا أن ينتَحِرَ الحكّامُ
لِيَفدوا لبنان. هاراكيري لبنانية. عبثاً نحاولُ زرعَ جرثومةِ كرامة في أغلبِ رجالِ السياسة.
الطوفان على الأبواب. اختَبَرْنا كلَّ شيء. وطنٌ خرّيجُ برج بابل وسدوم وعمورة.
جلَّ ما يحتاجُه بعد كورونا هُوَ نوحٌ جديدٌ مع تصميمٍ حديثٍ للسفينة. إبحارٌ
صوبَ المياهِ الإقليمية وعلى متنها مع بعض الأجناسِ الآدميّةِ المعرّضةِ للإنقراض وانتظارِ الطوفان.