على الرغم من أن حرب روسيا على أوكرانيا بعيدة جغرافيًا عن لبنان، لكن تأثيرها أقرب مما قد يتخيله المرء. انعكست الحرب في شرق أوروبا بطبيعة الحال على أسعار السلع المستوردة، خصوصًا شحنات القمح والذرة التي يستوردها لبنان من روسيا وأوكرانيا. لكن هذه التأثيرات لن تقتصر على ارتفاع الأسعار، بل تشمل بطريقة غير مباشرة أسعار اللحوم، التي بدأت تختفي في بعض المناطق اللبنانية، مع ارتفاع أسعارها.
الأعلاف واللحوم
قبل أيام، حذرت منظمة الأغذية والزراعة “الفاو” من ارتفاع أسعار الأعلاف والأسمدة عالميًا، مرجحة أن تشهد الأسعار ارتفاعات كبيرة لدرجة قد تجعل من الصعب على المزارعين حول العالم وتجار المواشي تحمل هذه التكاليف. وعلى الرغم من أن تحذيرات منظمة الزراعة والأغذية لا تزال في إطار التخمينات، إلا أن الواقع في لبنان كان أسرع في ترجمة هذه التحذيرات إلى حقيقة.
فسعر كيلو لحم البقر ارتفع في بعض المناطق اللبنانية إلى أكثر من 270 ألف ليرة، على الرغم من أن أسعاره كانت شبه مستقرة في الفترة الماضية، ما بين 200 و230 ألف ليرة، فيما تخطى سعر كيلو لحم الغنم حاجز 400 ألف ليرة في بعض المناطق.
ومع بدء العد التنازلي لقدوم شهر رمضان، بدأ بعض التجار بإخفاء اللحوم، حسبما يؤكد أحمد مزهر، وهو صاحب ملحمة في بيروت: “لم أتسلم الكميات المعتادة أسبوعيًا من أحد التجار”، قال، ورجح أن يكون حلول شهر رمضان مناسبة لتحقيق أرباح فئة من التجار، معتبرًا أن لا مبرر لرفع الأسعار حاليًا. ويقول “يتجحح بعض التجار بالحرب الروسية- الأوكرانية لرفع الأسعار. إلا أن تقنين تسليم الكميات المعتادة في هذا التوقيت، يرجح أن تشهد الأسعار مزيدًا من الارتفاع في بداية الشهر الكريم”.
ولا ينفي نقيب مستوردي اللحوم غابي دكرمجيان أن تؤدي زيادة الطلب وقلة العرض إلى زيادة الأسعار تلقائيًا. لكنه يرى أن هناك عوامل تساعد في رفع الأسعار، بعيدًا من آليات السوق. وفي حديثه إلى “المدن” أكد أن الكميات المستوردة من اللحوم شهدت انخفاضًا منذ بداية الأزمة الاقتصادية، وزادت الأمر صعوبة تغييرات سعر صرف العملة، وكذلك توقف تجار عن شراء اللحوم من الخارج. الحرب الأوكرانية- الروسية أثرت سلبًا على استيراد اللحوم. والعوامل الثلاثة مجتمعة كافية لرفع أسعار اللحوم في الفترة الحالية.
أسعار النقل
ويقول دكرمجيان: “صحيح أن لبنان لا يستورد اللحوم مباشرة من روسيا أو أوكرانيا، وتشكل دول أميركا اللاتينية المصدر الأساسي لاستيرادها، لكن تأثيرات الحرب في شرق أوروبا على أسعار الطاقة تحديدًا، رفعت تلقائيًا أسعار النقل، ما زاد من تكلفة سعر طن اللحم”.
ويتوافق حديث دكرمجيان مع تحذيرات أطلقها رئيس نقابة تجار اللحوم جوزيف الهبر، الذي رجح ارتفاع الأسعار في الفترة المقبلة. وفي حديثه إلى “المدن” لفت إلى أن ارتفاع أسعار المواشي عالميًا، سببه الحرب الروسية- الأوكرانية، ما يؤثر بالتأكيد على أسعار اللحوم في لبنان”. ولم يخف الهبر احتمال ارتفاع أسعار كلغ اللحم إلى أكثر من 300 ألف ليرة. ولذا تحركت النقابة مؤخرًا، وطالبت مصرف لبنان بالحصول على 5 في المئة من السلة المدعومة بهدف مساندة التجار.
الأزمة الاقتصادية
وبسبب الأزمة الاقتصادية تحول لبنانيون إلى “نباتيين”، إذ امتنعت عائلات، ممن تتقاضى رواتبها بالليرة اللبنانية، عن شراء اللحوم. فالهوة الكبيرة بين قيمة الرواتب وأسعار اللحوم (البقر)،
قفزت من 30 ألف ليرة إلى أكثر من 170 ألف ليرة، ومن ثم 230 ألف ليرة،
أي ناهزت 80 في المئة. وبعبارة أخرى، يمكن القول
إن سعر الكيلوغرام من اللحم، يوازي تقريبًا ربع قيمة الرواتب المعمول بها
في القطاع العام، والتي يتراوح متوسطها مابين مليون و200 ألف ومليون
و500 ألف. ومع ترجيح ارتفاع أسعار الكلغ من اللحوم إلى أكثر من 300 ألف ليرة،
فقد يكون تناول اللحم ترفًا يقتصر على قلة من اللبنانيين.
ومنذ بدء الأزمة الاقتصادية، انخفضت نسبة استيراد اللحوم والمواشي،
حسب إحصاءات دائرة الثروة الحيوانية في وزارة الزراعة. وبينت الإحصاءات تراجع استيراد اللّحوم الطازجة والمبردة
بنسبة تتراوح ما بين 40 إلى 65 في المئة. كما تراجع استيراد لحوم
البقر الحي بنسبة 40 في المئة، ما بين عامي 2019 و 2020،
أي من 115 ألف طن سنويًا إلى 68 ألف طن. وتراجع أيضًا استيراد لحوم
الغنم الحي بنسبة 65 في المئة (من 15 ألف طن إلى 5 آلاف طن).
واستيراد اللّحوم المبرّدة تراجع بنسبة 50 في المئة (من 17 ألف طن إلى 8 آلاف طن).
ارتفاع الأسعار
وساعد انخفاض الاستيراد في رفع الأسعار في الأسواق اللبنانية.
حتى مع إمكان دعم مصرف لبنان تجار المواشي، فإن عاملًا أخر قد يؤدي مستقبلًا إلى رفع الأسعار. وحذر بعض التجار
المستوردين من روسيا في الأيام القليلة الماضية، من أن تأثيرات
الحرب قد ترفع أسعار الأسمدة والأعلاف إلى مستويات قياسية.
ويخشى مستوردو الأسمدة والأعلاف الحيوانية- حسب وليد عبد الحق،
وهو صاحب مؤسسة لتجارة الأعلاف والأسمدة في جبل لبنان-
من توقف استيراد الأعلاف والأسمدة بسبب الحرب في أوكرانيا. وهو ويقول لـ”المدن”:
“شهدت بعض الشحنات المتفق عليها مسبقًا، ارتفاعًا في أسعار التأمين
الخاصة بها بأكثر من 20 في المئة، تحت بند ارتفاع المخاطر. وبالتالي
بات من الصعب على التجار اللبنانيين تحمل التكلفة المرتفعة،
في ظل شح الدولار، والتغييرات في أسعار الصرف شبه اليومية”.
ويؤكد عبد الحق، أن توقف استيراد الأعلاف والأسمدة يزيد
من الضغط على المزارعين، وحتى على تجار المواشي
وخصوصًا الصغار منهم. وقد لا يؤدي ذلك إلى ارتفاع الأسعار وحسب،
بل إلى عدم قدرة التجار والمزارعين على تأمين المنتجات الأساسية،
ما يزيد الضغط على الشعب اللبناني. وهناك احتمال أن يكون لبنان
من الدول التي تعاني من معدلات جوع شديد، حسبما كشف مقرر
الأمم المتحدة الخاص بالحق في الغذاء، مايكل فخري، الذي وجد
أن دول مثل لبنان وتونس واليمن وليبيا وباكستان من الأشد تأثرًا بالحرب الروسية-الأوكرانية