“أخرج من غرفتي على وقع نباح الكلاب، وهي عادة مستجدة في حيّنا نسبياً، إذ تبدو عادة اقتناء الحيوانات الأليفة في ازدياد مؤخراً، وفي الوقت نفسه زادتْ أعداد الكلاب الشاردة في الشارع لأن أصحابها ما عاد في مقدورهم إطعامها في زمن الغلاء… ولم أكد أقفل بوابة البناية حتى رأيتُ شاباً طويلاً في مقتبل العمر، يجرّ هرة يربطها بطوق وحبل، وعبثاً تسهل عليه عملية السير. أتجاوزه بعدما تجاوزت هول المفاجئة والصدمة الأولى، لأنعطف يساراً، حيث يستقبلني كلب جارنا المركون في الفيراندا وعواؤه الذي لا ينتهي بفعل الحركة الدائمة في الشارع، وأنا أسير لآخذ الطريق العام المحاذي لمنطقة تمنع في ديانتها اقتناء الكلاب لنجاستها المفترضة، فتجد الشارع يعج بالمحلات التي تبيع الحيوانات وحوائجها ومن ضمنها الكلاب على أشكالها.
يرن هاتفي النقال وأنا أسير. إنه صديقي، يتصل ليطمئن عليّ، فأسمع عواء كلبته التي بات يفضلها على كل شيء. أسأله ما بها، لماذا تعوي؟ يقول إنها شاهدت أناساً يسيرون في الشارع العام.. يتعذر علينا إكمال الحديث بين ضجيج السيارات وعواء كلبته، فنقطع المكالمة ونؤجلها لوقت لاحق. أتذكر عبارات لنزار قباني:
إن كنت –يا مولاي-
لا تحب الشعر والصداح
فقل لسيافك أن يمنحني
حرية النباح…
أتذكر ذلك العالم المجبول بالرهبة والقلق والفزع في قصة “تحريات كلب” لفرانز كافكا. تراودني فكرة أن بعض البشر يعتبرون الكلب صديقاً وفياً، في جانب يحبونه لأنه مطيع، وبعضهم يمارس عليه ثقافة الاخصاء منعاً للتناسل وحصول الإرباك في موسم التزاوج…
أمشي على رصيف حرج بيروت، فجأة تظهر صديقة قديمة كنتُ تصادمت معها في جلسة من الجلسات المقهى، ولم تعد الحياة إلى مجاريها السابقة. توقف المزاح بيننا، وبات التواصل يقتصر على سلام وسؤال متبادل عن الأحوال، أو بالأحرى “علاقة رسمية” فيها شيء من الجفاء. في لقائنا الأخير، كانت تقوم بالترويح عن كلبها المسنّ، وفجأة ظهرة امرأة أرادت ملاعبة الكلب، وبالصدفة كنتُ أمازح صديقتي لطيّ صفحة الماضي بسؤالها: “ألا ترغبين بعودة صداقتنا إلى ما كانت عليه؟ وكان هذا الحوار يجري على مسمع المرأة.
وبعدما أجابتني صديقتي بالنفي، بادرت المرأة إلى القول
إنها قالت لزوجها الكلام ذاته: “لا علاقات صداقة بعد اليوم مع الرجال، فقط مع الكلاب”.
ضحكتُ في سرّي وأكملت سيري على الرصيف، فشاهدت
مشادة بين صاحبَي كلبين. كلب كبير، وكلبة من النوع الصغير.
وكان هناك اعتراض من صاحب الكلبة الصغيرة لأن الكلب
الثاني ضخم وقد يؤذي كلبته، وأخذ صاحب الكلبة بالعويل بعدما استطاع سحب كلبته من المسرح. وانسحبت بدوري من
التجمع البشري الذي راح يتشكل حول الاثنين. دخلتُ المقهى
فوجدتُ شاباً وصبية، ومعهما كلبهما، وكان صديقي يجلس
ينتظرني على الطاولة في جوارهما. بعدما أنهى مداعبته للكلب،
فتح هاتفه النقال وأخذ يعرض عليهما صوراً لكلبته، فأبدوا إعجاباً بها،
وتحدثوا معاً عن علاقتهم بكلابهم وذكائها وهدوئها، وفي النهاية،
تبادلوا أرقام هواتفهم على أمل تنظيم رحلات مشتركة لكلابهم والتخييم في البرية.
سألتُ صديقي، هل هذه الرحلات موجودة فعلاً في هذا العالم؟ قال:
“طبعاً وأنا منضم لعدد من جروبات رحلات التخييم في البرية، تدوم يومين أو ثلاثة،
ونصطحب معنا كلابنا”. ونحن في معمعة الحديث، دخل رجل ستيني معه هرّة
حول رقبتها طوق، أجلسها على الكرسي بجانبه ثم أخرج ظرفاً فيه شيء مثل العلكة، وأخذ يقدم لها الواحدة تلو الأخرى…
ونهار الكلاب والحيوانات الأليفة لم ينته هنا. فقد دخلت المقهى
سيدة معها كلبة، وحين رأت الكلب الذي كان صديقي يلاعبه،
بدأت بالعواء تريد ملاعبته هي أيضاً. حاولت السيدة تهدئتها، لكن أمام إصرار الكلبة،
تقدمت السيدة من الشاب والفتاة طالبة الإذن لكلبتها بأن تلعب قليلاً مع كلبهما،
وإلا فلن تكف عن العواء، فسمحا لها باللعب قليلاً وغادرت السيدة الى طاولتها.
ارتشفتُ قهوتي مع صديقي على وقع رنين الهاتف والمحادثات وعقد الصفقات
وعواء الكلاب، وعدت صوب منزلي فاتحاً الفايسبوك، لأجد أن صديقتي
التي تستعد للهجرة الى بلاد الله الواسعة، ولأن يدها على ضيق حال،
توجه نداء استغاثة لبعض الجمعيات التي تعنى بالحيوانات الأليفة أن تتدبر إحداها أمر تسفير قططها الثلاث معها.
المصدر: عادل نصار-المدن