درج”: رامي الأمين – صحافي لبناني
العدالة لا يمكن أن تكون انتقائية، ولا يمكننا إلا أن نلاحظ أن القاضية عون لم تدّعِ يوماً على عوني، ولطالما لاحقت خصوم العونية وانزلقت إلى سجالات مع آل غانم (مارسيل وشقيقه جورج) وغيرهم. وهو ما يشكل خروجاً عن قواعد العمل القضائي.
لا ينطلق هذا المقال إلا من حسن الظنّ بالنائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون. فهي تجرّأت على تخطي الخطوط الحمر التي تضعها المنظومة السياسية الفاسدة حول عرّابيها وأهمهم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. توقيف شقيقه رجا سلامة يعتبر خطوة تتسم بالجرأة، خصوصاً أن هذا التوقيف يقرّب أكثر فأكثر ما بين يديّ الحاكم والأغلال، ويفتح أبواب السجون على مصراعيها إذا استكملت التحقيقات وسمح للقضاء بمتابعة القضية، خصوصاً بعدما قام قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان نقولا منصور، بإصدار مذكرة توقيف وجاهية بحق رجا سلامة، وهي خطوة تعني ذهاب القضاء بعيداً في ملاحقة الحاكم.
شُجاعةٌ هي غادة عون، حينما طرقت أبواب شركة مكتّف، بل خلّعتها بحثاً عن الأموال التي تم تحويلها إلى الخارج تحت جنح الظلام. وهنا سنضرب صفحاً عن العراضة الإعلامية التي اصطحبتها معها إلى مقر الشركة، وعن المواكبة العونية الحثيثة لخطواتها “الميدانية”!
وشجاعة حينما ادّعت قبل سنتين على رياض سلامة بتهمة التلاعب بالدولار، في وقت كان الحاكم أشبه بأيقونة لا تمسّ. وهي شجاعة طبعاً حين لاحقت رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في ملف قروض الإسكان. كل هذه الخطوات الشجاعة تحسب لها، هي التي تتعرض لأبشع أنواع التنمّر الذكوري فقط لأنها امرأة، أو بسبب مظهرها وتسريحة شعرها. وكلها أمور تزيد من الحاجة إلى دعمها ضد ذكورية المنظومة.
إلا أن العدالة لا يمكن أن تكون انتقائية، ولا يمكننا إلا أن نلاحظ أن القاضية عون لم تدّعِ يوماً على عوني، ولطالما لاحقت خصوم العونية وانزلقت إلى سجالات مع آل غانم (مارسيل وشقيقه جورج) وغيرهم. وهو ما يشكل خروجاً عن قواعد العمل القضائي.
المنظومة ليست فريقاً سياسياً واحداً. والقاضية عون تعرف ذلك تماماً. تعرف أن المصارف لا تمثل جهة سياسية محددة وحسب، بل هي بمثابة حزب واحد، أو “محفل” إذا جاز التعبير، يجتمع فيه ممثلون عن الأحزاب السياسية والطوائف. والتركيبة السياسية المعقدة للتحالفات والتقاطعات تجعل من فصل المصارف عن المنظومة والعكس بالعكس أمراً شبه مستحيل. والقاضية عون تعلم جيداً أن فريق “التيار الوطني الحرّ” متغلغل في منظومة المصارف، وينتمي عونيون إلى مجالس إدارات المصارف، ويشهر نوّاب عونيون سيف المصارف في وجه اي تشريع يضر بمصالح المصرفيين في مجلس النواب، كما أن هناك مصرفاً شهيراً يحسب بشكل حاسم وواضح على العهد، هو مصرف “سيدروس” الذي له حكاية، عن تورطه في الهندسات المالية، وعن تأسيسه المشبوه المترافق مع صفقة أبرمها العهد مع حاكم مصرف لبنان للتجديد له في أيار/ مايو 2017.
حكاية التجديد لسلامة معروفة ومنشورة في وسائل الإعلام. في جلسة مجلس الوزراء في 24 أيار/ مايو 2017، وقبل أن يرفع رئيس الجمهورية ميشال عون الجلسة، سأل الوزراء الحاضرين: هل هناك اعتراض على التجديد لرياض سلامة؟ ردّ وقتها كل من جبران باسيل ووزير العدل سليم جريصاتي بأن الحديث يجب أن يكون عن تعيينه في ولاية كاملة، وليس التجديد له. لم يعترض أحد. صدّق القرار، الذي طرح من خارج جدول الأعمال، هكذا في أقل من دقيقة واحدة، ونال سلامة ولاية كاملة بمباركة العهد، تنتهي في العام 2023. لكن ما لم ينشر في حينه هو سبب الحماسة العونية للتجديد لسلامة بهذه السرعة وبهذا الحسم، ومن خارج جدول الأعمال، وكيف أن هذا التجديد مرتبط بشكل أساسي، وموضوعياً، بـ”رشوة” قدّمها رياض سلامة للعهد عبر بنك “سيدروس”. كيف؟
في نيسان/ أبريل 2019 كشفت جريدة “الأخبار” أن مصرف لبنان منح في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2018 البنك المذكور تسليفات بالليرة اللبنانية بفائدة متدنية تبلغ 2 في المئة، وفي اللحظة نفسها، وظّف هذا البنك هذه التسليفات لدى مصرف لبنان على فترة 10 سنوات بفائدة تبلغ 10.5 في المئة. وهكذا كسب البنك ربحاً سنوياً من فارق الفائدة (8.5 في المئة) من دون أن يقوم بأي عمل أو يوظّف أي رأسمال أو يتحمّل أي مخاطرة. هذا كان جزءاً من هندسات مالية استفاد منها بنك “سيدروس” لمراكمة الأرباح على حساب الخزينة العامة. والهندسات المالية هي “لعبة” رياض سلامة مع المصارف لتحويل الأموال العامة إلى أموال خاصة، وقد استفادت معظم المصارف من هذه الهندسات، لكنها كلها نالت فارق فائدة لم يزد عن 6 في المئة، فيما بنك “سيدروس” استفاد من فائدة هي الأعلى وبلغت 8.5 في المئة. الجزء الأهم من الهندسات المالية التي استفاد منها “سيدروس” كان عام 2017، وحقق حينها المصرف المذكور، بالأسلوب نفسه، أرباحاً بقيمة 42.3 مليون دولار. والأهم من كل ذلك هو توقيت هذه العملية المشبوه في العام 2017، حيث أجريت 3 عمليات هندسة مالية لخدمة “سيدروس” بين شهري آذار/ مارس وأيار/ مايو 2017، أي قبل أيام من التجديد لسلامة في جلسة مجلس الوزراء الشهيرة، فيما أجريت 4 عمليات أخرى في السنة نفسها بعد التجديد، فيما كان فريق رئيس الجمهورية يرفع الصوت عالياً ضد التجديد لسلامة، ليتحول الأمر، وبقدرة قادر، مع الملايين التي دخلت إلى خزينة “سيدروس” إلى التجديد له بإجماع مجلس الوزراء وباقتراح من رئيس الجمهورية من خارج جدول الأعمال، وترحيب احتفائي من جبران باسيل وسليم جريصاتي.
كان سلامة قد قدّم قبل ذلك “خدمة” إلى “سيدروس”، عبر السماح بتحويل رخصته من مصرف استثماري إلى مصرف تجاري عام 2017، في وقت كان هذا الأمر أشبه بمستحيل مع حرص المصرف المركزي على عدم إعطاء رخص تجارية ولا حتى رخص لتفريع المصارف التجارية الموجودة أصلاً. وبسحر ساحر، قدم سلامة هذا الاستثناء لمصرف “سيدروس”، ليصير مصرفاً تجارياً ويستفيد من الهندسات المالية المفصّلة على قياسه. وهذه العملية كان لميراي عون، ابنة رئيس الجمهورية، دور أساسي في تحقيقها، وكان عضوان مؤسسان في مجلس إدارة “سيدروس” مقرّبان بشكل كبير من الرئيس ميشال عون، وهما رائد خوري، الذي عيّن وزيراً للاقتصاد في ما بعد، وفادي عسلي، مستشار رئيس الجمهورية لشؤون الخليج العربي.
بعد انتخابه مباشرة، اختار رئيس الجمهورية ميشال عون أن تكون زيارته الأولى خارج لبنان إلى المملكة العربية السعودية. حينذاك رافقه وفد كبير، ضمّ الوزيرين حينها جبران باسيل ورائد خوري، وكان فادي عسلي ضمن الوفد. في عشاء أقيم على شرف الرئيس من الجالية اللبنانية في السعودية، كان “سيدروس” عبر خوري وعسلي حاضراً في التنظيم والرعاية، وكان عسلي حينها عريفاً للحفل، فيها ألقى خوري كلمة في المناسبة.
يرى مصرفيون ومحامون على اطلاع على فترة تأسيس “سيدروس” ونيله رخصة مصرف تجاري واستفادته من الهندسات المالية، أن رئيس الجمهورية وفريقه السياسي كانوا يحاولون دائماً العمل على تعزيز مصالح “سيدروس” عبر دعمه بالعلاقات العامة و”الواسطة” السياسية.
هذا الأمر حدث أيضاً في زيارة عون العراق في شباط/ فبراير 2018. هناك، فاوض الوفد اللبناني، وكان من ضمنه وزير مكافحة الفساد نقولا تويني، السلطات العراقية لاستعادة أموال لبنانية محجوزة في مصرف إربيل (عاصمة إقليم كردستان) المركزي منذ ما قبل عام 2003. وكان شرط فريق الرئيس أن تودع الأموال المستعادة والتي تبلغ نحو مليار دولار في بنك “سيدروس”. وهذا ما حدث بالفعل، وأموال اللبنانيين التي كانت عالقة في العراق عادت وعلقت في بنك “سيدروس” بعد الأزمة المالية. لكن هذه الحادثة تدلّ على حجم تدخّل فريق العهد في كل ما يخدم مصرف “سيدروس”، خصوصاً قبل الخلاف الذي وقع لاحقاً بين رائد خوري وجبران باسيل.
هذه كلها معطيات يفترض أن تكون القاضية عون مطّلعة عليها بحكم متابعتها جريمة الهندسات المالية التي لا يختلف عاقلان على تسميتها بـ”الجريمة”. وإذا كانت غير مطّلعة عليها، فها هي أصبحت في عهدتها وعهدة القضاء، بمثابة إخبار للتحقيق فيه وسوق المشاركين بهذه الجريمة إلى العدالة، مع شريكهم رياض سلامة. خصوصاً أن هذه المعطيات تكشف بوضوح من هم شركاء سلامة في هذه الجريمة، وكيف قام باستخدام الهندسات لرشوة العهد للسكوت عنه وإبقائه حاكماً للمصرف المركزي. ولا يزال هناك من ضمن فريق العهد، من يعمل على حماية الحاكم. بما في ذلك رئيس الجمهورية نفسه، الذي طلب من مدّعي عام التمييز غسان عويدات عدم ملاحقة رياض سلامة، حتى لا يتم تعطيل العمليات المصرفية، بحسب ما كشف المحامي لؤي غندور في مقابلة تلفزيونية. “درج” سأل غندور عن هذه المعلومة الخطيرة، والتي تكشف بوضوح عن تدخل الرئيس في عمل القضاء لحماية رياض سلامة، فأكدها، مضيفاً: “خلّي مدّعي عام التمييز يطلع ينفي”.