تُعتبر الهجرة أحدى أبرز سمات المجتمع اللبناني عبر التاريخ، فمنذ تأسيس الدولة وحتى اليوم، شهد لبنان موجات هجرة كبيرة رافقت المراحل المفصلية التي عاشها.
موجة الهجرة الأولى امتدت من أواخر القرن 19 وحتى الحرب العالمية الأولى (1865 – 1916) هاجر خلالها نحو 330 ألف شخص. أما الموجة الثانية فكانت خلال الحرب الأهلية (1975 – 1990) والتي سجلت هجرة حوالي 990 ألف شخص
اليوم دخل لبنان موجة هجرة ثالثة تُعتبر الأخطر، وتأتي كواحدة من تداعيات الأزمة الاقتصادية الأسوأ في تاريخه، بالتزامن مع شحّ الدولار وفقدان الليرة اللبنانية أكثر من نصف قيمتها، وارتفاع معدلات التضخم والفقر والبطالة.
ويُلاحظ ارتفاع الرغبة بالهجرة عند الشباب، فـ 77 بالمئة منهم يفكرون بالهجرة ويسعون إليها، وهذه النسبة هي الأعلى بين كل البلدان العربية، كما تُشير الدراسات.
ومن المؤكد ان الأزمة الاقتصادية والمالية والمعيشية
التي يشهدها لبنان، هي السبب وراء ارتفاع أعداد المهاجرين
والمسافرين بحثا عن فرصة عمل يفتقدونها في وطنهم، أو
عن خدمات حياتية أساسية أصبحت شبه معدومة من
الكهرباء والمياه والطبابة وارتفاع الأسعار وتآكل القدرة الشرائية.
وتُظهر دراسة أعدتها “الدولية للمعلومات” أن عام
2021 شهد النسبة الأكثر ارتفاعاً لجهة عدد
المغادرين في السنوات الخمس الأخيرة وقد توزّعوا على النحو التالي:
18 ألفاً في عام 2017
33 ألفاً في عام 2018
66806 في عام 2019
17721 في عام 2020
79134 في عام 2021
وبالتالي وصلت حصيلة المهاجرين
والمسافرين خلال الأعوام 2017-2021 إلى 215,653 شخصاً.
المزيد من الهجرة
وفي هذا الإطار، قال الباحث في “الدولية
للمعلومات” محمد شمس الدين في حديث لـ”لبنان 24” اننا
“نشهد هجرة أفراد لاسيما من الشباب وذلك بحثاً عن
فرص عمل خاصة في البلدان العربية لاسيما انه من غير السهل الهجرة إلى الدول الأوروبية وأميركا وكندا مع استمرار قيود كورونا والأزمة الحالية بين روسيا وأوكرانيا”، معتبرا ان “الإيجابية الوحيدة في هجرة هؤلاء الشباب تأمين دخل بالدولار.”
وأكد شمس الدين ان “الوضع الاقتصادي المتردي
سيدفع إلى مزيد من الهجرة، ولفت إلى انه من
المتوقع ان يسجل عام 2022 هجرة أكثر من 100
ألف لبناني، موضحا ان “انتشار فيروس كورونا وتدهور
الاقتصاد العالمي خففا من أعداد المهاجرين والا لكان الرقم أكبر بكثير.”
ولفت إلى ان “نسبة البطالة في لبنان تجاوزت الـ 38
بالمئة”، وقال: “عدة قطاعات تأثرت بالأزمة الاقتصادية
ففي القطاع المصرفي تم صرف 6 أو 7 آلاف
موظف إضافة إلى إقفال فروع في عدد من المناطق ونشهد انهيار قطاعي
المطاعم والفنادق”، محذراً من ان
البطالة ستؤدي لمزيد من الهجرة في السنوات المقبلة”
والهجرة إلى جانب تأثيرها الديموغرافي فسلبياتها
تطاول أيضا إنتاجية العمل التي تنخفض في لبنان بشكل عام وتؤدي إلى نقص بعض الخدمات وفي مقدّمتها الطبّية التي بدأ يعاني منها البلد في الفترة الأخيرة، مع تزايد هجرة الأطباء والممرضين والممرضات نظراً إلى البدلات المادية المتواضعة التي يتقاضونها في الداخل مقارنة مع تلك التي قد يحصلون عليها في الخارج وخاصة أن الطلب على هذه المهن مرتفع
نزف مالي وبشري
الخبير الاقتصادي الدكتور لويس حبيقة يعتبر
ان “الهجرة كارثية وليس فقط عنصر الشباب
من يُهاجر بل نشهد هجرة عائلات بأكملها وبالتالي الإنتاج في لبنان سيتأثر ويضعف”.
وفرّق حبيقة في حديث لـ “لبنان 24” ما بين الهجرة الموقتة التي تشمل الخليج والدول الافريقية والهجرة الدائمة أي اميركا وكندا واستراليا حيث من الصعب ان يعود من هاجر إلى هذه البلدان إلى لبنان بعد حصوله على الجنسية وانخراطه في هذه المجتمعات.
وشدد على ان “الهجرة تؤدي إلى خسارة العنصر الإنتاجي وإلى نزف بشري ومالي”، وتابع: “لا شيىء يعوض هجرة الشباب اللبناني ولكن الإيجابية الوحيدة ان هؤلاء يحوّلون الأموال إلى لبنان وهذا الأمر بمثابة تعويض جزئي عن الخسارة البشرية.”
واعتبر ان من بقي في لبنان يواجه صعوبات عديدة والراتب لا يكفيه ولا يمكنه تحقيق طموحاته لاسيما وان اللبناني طموح وهو مجبر على الهجرة لتأمين مستقبله مع صعوبة الحياة في لبنان.”
وأشار إلى ان “الوضع السياسي وطريقة إدارة الخطاب السياسي تدفعان باللبناني إلى الهرب من هذا الواقع وبالتالي السعي إلى الهجرة.”
واللافت في موجة الهجرة الثالثة التي يشهدها لبنان أنها تطال الكوادر الكبيرة والمتوسطة وذوي الكفاءات العالية والمؤهلات التي تجعلهم موارد مهمّة للبلدان التي يقصدونها، ونسبة الجامعيين من بين المهاجرين تخطّت الـ 50%، والمعروف عن هجرة الكوادر أنها “هجرة دائمة وطويلة الأمد، ما يهدد بخسارة الرأسمال البشري اللبناني الذي يعوّل عليه في إعادة بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد.