بقلم علي نور الدين – المدن
منذ عقد التفاهم على مستوى الموظفين بين بعثة صندوق النقد الدولي والوفد اللبناني المفاوض، كثرت التكهنات بخصوص مستقبل سعر الصرف في حال حصول اتفاق نهائي مع الصندوق، خصوصًا أن توحيد أسعار الصرف مثّل أحد الشروط التي طلب الصندوق تحقيقها قبل توقيع الاتفاق النهائي. فحسب بيان الصندوق، وكشرط ملزم قبل الدخول ببرنامج القرض، على مصرف لبنان أن يتمكّن من الوصول إلى سعر صرف موحّد لجميع عمليّات الحساب الجاري من دون استثناء، على أن يكون هذا المسار مدعومًا بقانون خاص للكابيتال كونترول، بما يسمح بالسيطرة على حركة السيولة بالعملة الصعبة في السوق خلال عمليّة توحيد أسعار الصرف. كما طلب البيان من السلطة اللبنانيّة وضع نظام نقدي شفّاف ذي مصداقيّة، كجزء من مسار التعافي المالي.
النقطة الأهم هنا، هي أن مصرف لبنان سيتمكّن في حال تطبيق برنامج القرض من استخدام ما يقارب الثلاثة مليارات دولار على مدى 46 شهراً، أي ما يقارب 65 مليون دولار شهريًّا، للتمكّن من التدخّل في سوق القطع خلال فترة البرنامج، وبما يسمح بإعادة التوازن لميزان المدفوعات. وهذه الفكرة بالتحديد، دغدغت مشاعر كثيرين، لجهة إمكانيّة العودة إلى سعر الصرف الثابت والمستقر على المدى بعيد، لا بل ذهبت بعض التحليلات إلى تحديد هامش تثبيت سعر الصرف بين 20 و22 ألف ليرة للدولار الواحد، بالاعتماد على أسعار الصرف التي سجّلتها منصّة مصرف لبنان مؤخرًا
توحيد أسعار الصرف بالنسبة إلى عمليّات الحساب الجاري، كما يطلب صندوق النقد، وقبل توقيع الاتفاق النهائي معه، سيعني ببساطة اعتماد سعر الصرف نفسه لاستيراد جميع أنواع السلع والخدمات من الخارج. بهذا المعنى، من غير المقبول –حسب مبدأ سعر الصرف الموحّد- أن يكون هناك سعر صرف خاص معتمد لمستوردي البنزين، وآخر لمستوردي القمح، وسعر صرف مربوط بالسوق الموازية بالنسبة إلى مستوردي المازوت، وسائر السلع غير الأساسيّة. في خلاصة الأمر، سيكون هناك سعر صرف وحيد معتمد عبر منصّة معتمدة لتبادل العملات الأجنبيّة، مُستخدَماً لجميع عمليّات شراء وبيع الدولار. وهذا السعر هو ما سيتم تسجيله كسعر الصرف الفعلي والحر لليرة اللبنانيّة. وللوصول إلى هذه المرحلة، لا يمكن أن يكون هناك سعر خاص للسوق الموازية، مختلف عن السعر الرائج عن المنصّة الرسميّة المعتمدة من قبل مصرف لبنان.
وبعد تمكّن مصرف لبنان من ضبط سعر الصرف على هذا النحو، سيكون بالإمكان اعتماد هذا السعر لمختلف العمليّات الضريبيّة، كاحتساب الضريبة على القيمة المضافة للسلع المستوردة، أو احتساب الرسم الجمركي، أو حتّى سداد الضريبة على الأرباح والأجور. وفي مرحلة لاحقة، سيكون بالإمكان اعتماد سعر الصرف هذا لسائر العمليّات المصرفيّة، كعمليّات المصارف مع مصرف لبنان، أو معاملات شراء الدولار لمصلحة الدولة اللبنانيّة من المصرف المركزي، أو حتّى عمليّات سداد القروض المقوّمة بالعملة الأجنبيّة. في النتيجة، سيكون السعر الرائج الموحّد هو البديل الأخير والنهائي لسعر الصرف الرسمي القديم، المعتمد حاليًّا لبعض هذه العمليّات.
هذه الصورة المتكاملة تحول دونها الكثير من العقبات، أبرزها تعثّر منصّة مصرف لبنان نفسها، التي يفترض أن تكون الأداة الأساسيّة لخلق سعر صرف موحد لجميع معاملات الحساب الجاري (الاستيراد والتصدير)، بما فيها السعر المعتمد حاليًّا في السوق الموازية. وبعد أن تمكّن مصرف لبنان في بداية السنة من استيعاب حركة السوق الموازية من خلال المنصّة، وتوحيد سعر صرف السوق الموازية مع سعر المنصّة، متحمّلًا كلفة ضخ الدولارالباهظة، عادت المنصّة لتتعثّر من جديد، بمجرّد ارتفاع الطلب على الدولار في السوق، وانحسار حجم الاحتياطات الممكن استخدامها في هذه العمليّات. وهكذا، عاد سعر صرف السوق الموازية ليبتعد عن سعر المنصّة، وعادت عمليّات بيع الدولار وشرائه لتنفلت من سيطرة المنصّة وتتجه نحو السوق الموازية، ما عنى تعثّر المنصّة. لكل هذه الأسباب، وطالما أن المنصّة تعاني من التعثّر الواضح للجميع، من الصعب توقّع نشوء سعر الصرف الموحّد على النحو الذي يطلبه الصندوق.
في المقابل، ثمّة عقبات أخرى تحول دون توحيد سعر الصرف بهذا الشكل، أبرزها الضغط المعيشي المتوقّع في حال اعتماد سعر المنصّة المرتفع في عمليّة احتساب الضرائب والرسوم، وخصوصًا في ما يتعلّق بالدولار الجمركي. ورغم أن الموازنة التي أرسلتها الحكومة إلى مجلس النوّاب نصّت على هذا المبدأ، من غير الواضح ما إذا المجلس النيابي سيذهب باتجاه خطوة قاسية من هذا النوع، بالنظر إلى حجم التضخّم الخيالي الذي سينتج عن مضاعفة سعر صرف الدولار الجمركي بنحو 15 مرّة. ومن ناحية أخرى، من غير الواضح
ما إذا كانت الموازنة العامّة قادرة على تحمّل شراء الدولار بسعر
المنصّة في جميع عمليّات القطاع العام، خصوصًا كون هذه الخطوة
ستؤدّي إلى تعثّر جزء كبير من مؤسسات الخدمات العامّة التي تحتاج إلى دولارات المركزي لسداد نفقاتها.
التساؤل الآخر، يرتبط بإمكانيّة عودة مصرف لبنان إلى سياسة تثبيت سعر الصرف،
أو دعمه ليتراوح ضمن هامش ضيّق (بين 20 ألفاً و22 ألف ليرة للدولار مثلًا)،
وهذا تحديدًا ما دارت حوله الكثير من التكهّنات مؤخرًا، بعد عقد التفاهم
المبدئي مع صندوق النقد. في واقع الأمر، من الأكيد أن المبلغ الذي
سيحصل عليه لبنان في حال دخول برنامج القرض سيسمح بتدخّل المصرف
المركزي بشكل منظّم في سوق القطع، بما يسمح بضبط تذبذبات سعر
صرف الدولار في السوق، خصوصًا في بدايات مرحلة تعويم سعر صرف الليرة اللبنانيّة.
لكنّ العودة إلى سياسة تثبيت سعر الصرف، كما كان الحال قبل العام 2019،
ستعني استنزاف احتياطات المصرف المركزي بشكل لامتناهٍ، تمامًا كما
جرى بين عامي 2011 و2019، وهو ما سيعني مراكمة الخسائر مجددًا
في ميزانيّة المركزي. ومن الناحية العمليّة، من المعلوم أن السياسات التي
يدفع باتجاهها صندوق النقد في العادة تبتعد كثيرًا عن
مبدأ تثبيت سعر الصرف، وتشجّع على الانتقال إلى سعر صرف عائم وقادر
على التكيّف مع تحوّلات أرقام ميزان المدفوعات، فما بالك إذا كانت
مشكلة البلد المعني –أي لبنان- تكمن تحديدًا في مراكمة خسائر ضخمة
في ميزانيّات المصرف المركزي نتيجة التشبّث بسياسة تثبيت سعر الصرف قبل العام 2019.
لكل هذه الأسباب، سيكون مسار توحيد أسعار الصرف مليئاً بالألغام والعراقيل، الناشئة
عن صعوبة إقلاع المنصّة في المهمّة المناطة بها، والتحديات التي تحيط باعتماد
سعرها لعمليات سداد الضرائب والعمليات المصرفيّة. في المقابل،
لن يكون من المتوقّع أن يعود مصرف لبنان في المستقبل إلى
سياسة تثبيت سعر صرف الليرة، حتّى لو تمكّن لبنان من
دخول برنامج قرض الصندوق، نظرًا للمحاذير التي تحيط بهذا النوع
من السياسات الخطرة، والتي دفع لبنان ثمنها غاليًا في الماضي.