كّد النائب العام التمييزي غسان عويدات في حديث صحافي
ما نقلته “المدن” يوم الجمعة الماضي عن مصادر خاصّة، لجهة
إرساله كتب إنذار إلى المصارف المتمنّعة عن تسليم
كشوفات حسابات شقيق حاكم مصرف لبنان رجا سلامة للقضاء اللبناني، والتي طلبها القاضي جان طنّوس في إطار التحقيقات التي يجريها في ملف عمولات شركة فوري. مع الإشارة إلى أن تحقيقات طنّوس في لبنان تكمّل على المستوى المحلي التحقيقات التي يجريها المحققون الأوروبيون في الملف نفسه. وبينما تطلب أربع دول أوروبيّة هذه الداتا المصرفيّة من لبنان، بموجب كتب تعاون قضائيّة، يطلب طنّوس هذه الداتا لتمكينه من استكمال أدلّة ملفّه في لبنان، تمهيدًا لتوجيه الادعاء على رياض سلامة وشقيقه
رجا والحلقة المحيطة بهما، المشتبه بهم في هذا الملف
بالاختلاس والإثراء غير المشروع وإساءة استعمال النفوذ.
في كل الحالات، خلال اليومين الماضيين، انكشفت مجموعة
من التطوّرات التي فسّرت انقلاب موقف عويدات المفاجئ، من سعيه إلى عرقلة محاولات القاضي طنّوس انتزاع الداتا المصرفيّة بالقوّة، إلى إرساله كتب الإنذار التي حذّرت المصارف من “إجراءات ميدانيّة” لإجبارها على تسليم هذه الداتا. مع العلم أن انقلاب موقف عويدات على هذا النحو مثّل انعطافة كبيرة في مسار الملف، لكون عويدات مثّل آخر حماة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة داخل النظام القضائي، قبل أن ينقلب على سلامة ويوجّه كتب الإنذار إلى المصارف، والتي قد تفضي إلى فرض تسليم أدلّة الكشوفات
التي تدين الشقيقين سلامة (رجا ورياض).
بعثة قضائيّة أوروبيّة في بيروت
باختصار، ما أجبر عويدات على هذا التحوّل في موقفه لم
يكن سوى تلقيه خبر وجود “مهمّة مشتركة”، ستقوم
بها “بعثة قضائيّة أوروبيّة رفيعة المستوى” على الأراضي اللبنانيّة بعد أسبوعين. وحسب المعلومات المتداولة، ستجمع البعثة ممثلين عن النيابات العامّة التمييزيّة في عدّة دول أوروبيّة، بينما ستلعب باريس دور أساسي في تنسيق أنشطة هذه المهمّة المشتركة على الأراضي اللبنانيّة. أمّا الدور الذي ستقوم به البعثة، فهو التحرّي ميدانيًّا وعبر مقابلات شخصيّة حول تقدّم التحقيقات المرتبطة بالشقيقين
سلامة في لبنان، بالإضافة إلى أسباب عرقلة حصول القاضي طنّوس على بعض الأدلّة المهمّة المطلوبة في هذا الملف، كالداتا
المصرفيّة التي تمتنع المصارف عن تسليمها للقضاء اللبناني.
كما من المتوقّع أن تسعى البعثة الأوروبيّة في اجتماعات خاصّة مع طنّوس إلى مطابقة خلاصة التحريات التي قام بها المحققون الأوروبيون، مع خلاصات التحقيق اللبناني في الملف نفسه، بعد أن حال عويدات خلال الفترة الماضية دون سفر طنّوس للمشاركة في مؤتمر قضائي مخصص لهذه المسألة في باريس. مع الإشارة إلى أن البعثة القضائيّة ستطلب المشاركة في بعض التحقيقات المباشرة مع شهود معنيين بالملف، كبعض المديرين التنفيذيين في مصارف لبنانيّة دخلت على خط عمليات شراء سندات اليوروبوند وشهادات الإيداع، التي نتجت عنها العمولات التي استفادت منها شركة فوري. وهذه المقابلات، يفترض أن تحدد درجة تورّط هؤلاء في مسألة العمولات، وتحديدًا لجهة درجة معرفتهم بهويّة المستفيدين من العمولات التي نتجت عن عقود بيع المنتجات الماليّة.
هكذا، أدرك عويدات أن البعثة ستسعى إلى تحديد معرقلي التحقيقات، فيما يدرك أيضًا أن أبرز ما يريده الأوروبيون من الملف اللبناني هو داتا الحسابات المصرفيّة، الكفيلة بتحديد مصدر الأموال التي تم تحويلها إلى أوروبا، والتي تتصل عمليًّا بعمولات شركة فوري. ولهذا السبب بالتحديد، أراد عويدات استباق عمل البعثة في بيروت، عبر رفع مسؤوليّة عرقلة التحقيقات عن كاهله، وإرسال كتب الإنذار إلى المصارف الممتنعة عن تسليم داتا حسابات رجا سلامة. وحسب المصادر المتابعة للملف، في حال استمرّت المصرّف بالتمنّع عن تسليم هذه الداتا، من المتوقّع أن يلجأ عويدات إلى إعطاء الضوء الأخضر لإجراءات عمليّة كفيلة بفرض تسليم هذه الداتا، من قبيل المداهمات الميدانيّة، وهذا تحديدًا ما ذكره عويدات في كتب الإنذار الموجهة إلى المصارف.
هكذا، يفسّر قدوم البعثة القضائيّة الأوربيّة بعد أسبوعين الانقلاب السريع في موقف عودات، بل وإصراره على تسليم الداتا المصرفيّة تحت طائلة إجراء المداهمات خلال أيام، وقبل وصول البعثة. مع العلم أن عويدات تلقى رسائل أوروبية مفادها أن عرقلة التحقيقات، في ملف دسم بحجم ملف حاكم مصرف لبنان، ستعني توجيه دعاوى مباشرة للمسؤولين عن العراقيل في المحاكم الأوروبيّة، سواء تعلّق الأمر بالمصارف المعنيّة بتسليم الكشوفات، أو بالجهات القضائيّة المتلكئة عن الضغط على المصارف. ولهذا السبب، أبلغ عويدات الإدارات التنفيذيّة في المصارف المعنيّة بالملف أن استمرار العرقلة لن يعني فقط تعريض المصارف للمداهمات خلال الأيام القليلة المقبلة، بل تعريضها لدعاوى وملاحقات قضائيّة في الدول الأوروبيّة التي تحقق بملف سلامة. في المقابل، يعتبر عويدات أنه رفع المسؤوليّة عن نفسه أمام الخارج، بعد قيامه بالتصعيد الأخير في وجه المصارف، واتجاهه إلى سحب الداتا المصرفيّة التي يطلبها الأوروبيون بالقوّة.
بريطانيا والحجز على أملاك سلامة
في وقت نفسه، لعبت التطورات الجارية في الملفات
القضائيّة الأوروبيّة دورها في مضاعفة الضغط على
عويدات ودفعه للتعاون، خصوصًا في ظل الأنباء
التي تشير إلى أن بريطانيا تتجه للإنضمام إلى الدول التي فرضت حجوزات على أملاك الشقيقين سلامة وشركائهما. وفي حال اتخاذ بريطانيا قرار كهذا، وهو مرجّح بقوّة خلال الأيام القليلة المقبلة، فسيكون جزء كبير من محفظة عائلة سلامة العقاريّة تحت رحمة الحجوزات القضائيّة، بالنظر إلى تركّز جزء كبير من نشاط العائلة العقاري في السوق البريطانيّة. فمن الناحية العمليّة، وبفضل أنظمة
السوق العقاريّة في بريطانيا التي تسمح بشراء
العقارات بطرق مخفيّة، تمكّنت عائلة سلامة من استخدام شركات مسجّلة في جزر العذراء البريطانيّة،
لإخفاء ثرواتها من خلال أصول عقاريّة مسجلة في بريطانيا. وهذه العقارات بالتحديد كانت موضوع جانب أساسي من
التحقيقات، التي حاولت تتبع مآلات العمولات التي جرى
جنيها في لبنان، ومن ثم تبييضها في سوق العقارات الأوروبيّة.
هكذا، سيواجه حاكم مصرف لبنان تضييق الخناق عليه
من جهتين: محليًّا بفضل زيارة البعثة القضائيّة الأوروبيّة، التي
ستزيد من الضغوط باتجاه تسليم المصارف اللبنانيّة الداتا التي
تدين الحاكم وشقيقه، وأوروبيًّا بفضل التوسّع المتوقّع
في رقعة الحجوزات التي ستطال ممتلكاته العقاريّة والاستثماريّة في أوروبا.
ببساطة، سيمضي سلامة أياماً صعبة .