إقتصر توزيع الخسائر في خطة التعافي التي أعدّتها الحكومة
على المصارف والمودعين، وأعفت الدولة نفسها ومصرف
لبنان من مسؤولياتهما ولم تعطِ في الوقت نفسه أي
استثناءات للقطاعات النقابية بما فيها الطبابة واموال
المعاشات التقاعدية ولا القطاعات الانتاجية الكفيلة
بإنهاض البلد من خلال جذب العملات الصعبة. فأيّ
اقتصاد سيتمكّن من النهوض مجدداً في ظل ظروف مماثلة؟
حدّدت خطة التعافي الحكومية حماية كل مودع تصل
وديعته الى حدود 100 الف دولار على ان تتعرّض كل الودائع التي تزيد عن هذا المبلغ الى هيركات قد يصل الى حدود 70% او يعرض على صاحب الوديعة تملّك حصص
وأسهم في مصرفه. الا انه غاب عن بال مُعدّي الخطة اي تخطيط او رؤية لمستقبل النهوض بلبنان، وبدل اعطائهم الحوافز لخلق الاعمال نالوا الهيركات والقيود على الوديعة التي اخذت بطريقها اموال النقابات والصناديق مع ما تحويه من رواتب تقاعدية وتغطية استشفائية. انطلاقاً من ذلك لا بد من اعادة النظر بتوزيع الخسائر لأنه على اساسها سيتحدّد عنوان المرحلة المقبلة وشكل الاقتصاد الجديد.
في السياق، أكد استاذ التمويل في الجامعة الاميركية
محمد فاعور انّ طريقة توزيع الخسائر سترسم
شكل البلد في المرحلة المقبلة، لأنه انطلاقاً منها
ستتوزّع الثروات والقاعدة الانتاجية في البلد وسيتحدّد شكل
الاقتصاد والمجتمع للعقود المقبلة.
وشرح فاعور لـ«الجمهورية» انّ حجم الودائع المقدّر
يتراوح ما بين 100 و 110 مليارات دولار بينما السيولة المتوفرة هي بحدود 11 مليار دولار كاحتياطي الزامي، بما يعني انّ هناك خسائر ستتوزع انما لا يجب ان ينحصر توزيعها على المودعين الذين تقل اموالهم عن 100 الف دولار فقط لأنّ الاموال المتبقية هي اساسية من اجل اعادة النهوض بالبلد الذي هو راهناً مشلول ومدمّر، لذا المطلوب اعداد خطة مارشال اقتصادية على غرار ما حصل في اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
وشدّد فاعور على ضرورة اعطاء الاولوية لقطاعات
معينة لدى توزيع الخسائر وهي خصوصاً تلك القادرة على ان تكون رافعة لإنهاض البلد مجدداً، من خلال قدرتها على التصدير، وتشغيل يد عاملة، وادخال العملات الصعبة الى البلد. وقال: لا يمكن تحديد هذه القطاعات الآن لأنّ هناك غيابا تاما لدور الدولة انما على سبيل المثال اذا قررت الدولة
عطاء الاولوية لقطاع الغذاء والمشروبات food and beverage انطلاقاً من قدرة هذا النوع من القطاعات على لعب دور اساسي في المستقبل في تحريك الاقتصاد، لا يمكن في المقابل ان تخضع أموال هذا القطاع لهيركات بنسبة 80% او ان تبقى امواله عالقة ومجمدة في المصارف واصحابها
غير قاردين على التصرّف بها خصوصا اذا كان القطاع يشغّل آلاف اليد العاملة، فهل يجوز فرض هيركات على ودائعه او رأسماله مثله مثل اي مودع آخر؟ ماذا سيحلّ بهذه
الشركات اذا تبين انه يجب ان تُعطى اولوية في المرحلة المقبلة؟ ماذا سيكون مصير الموظفين؟ كيف ستتمكن من الإقلاع مجددا؟ كيف ستحافظ على انتاجيتها؟ هل ستتمكّن من الاستمرار بالتصدير وادخال العملات الصعبة؟ ماذا عن مصير الصناديق التعاضدية ونقابات الضمان الاجتماعي التي فقدت اموالها بنسبة 90% من قيمتها؟ نحن نتحدث هنا عن معيشة مئات آلاف العائلات وطبابتهم، والمعاش التقاعدي؟ فهل يجوز ابلاغهم انّ اموالهم تبخرت بكل بساطة؟
وأسِف فاعور لأنه يتم تبسيط موضوع توزيع الخسائر
وتسخيفه وتحويله الى عملية حسابية بسيطة واعتباره مخزوناً stock يجب التخلص منه، بينما هذا الموضوع اساسي جدا يجب ان يترافق مع نظرة الى المستقبل تتضمن تحديداً للقطاعات التي يجب ان تبقى في البلد وتستمر وتلقى الدعم اللازم انطلاقاً من عدة اعتبارات اساسية، منها: لأنها تصدّر
الى الخارج وتدخل العملات الصعبة وتوظّف الآلاف…
شكل الاقتصاد
وجَزم فاعور انّ طريقة توزيع الخسائر ستحدّد شكل الاقتصاد
مستقبلاً إذ لا يجوز اعطاء الاولوية مثلاً لقطاع التكنولوجيا، وفي
الوقت نفسه يفرض هيركات على رأسمال هذه الشركات بنسبة 80%. وقال: صحيح انّ طريقة التعاطي هذه هي الأنسَب للنهوض انما ستنعكس تراجعا في حجم الودائع التي ستعود الى اصحابها والتي ستقل حُكماً عن 100 الف دولار لأنه بهذه الحالة ستتوزّع اموال الاحتياط المتبقية ما بين
المودعين وصناديق النقابات وقطاعات معينة. ودعا الى
عدم الاكتفاء بالتفكير بسُبل الحفاظ على مدّخرات المودعين
قدر الامكان إنما ايضاً كيف يمكن مساعدتهم على استعادة
قدرتهم على الادّخار في المستقبل لإعادة تكوين الثروات
مجددا، وزيادة المداخيل من خلال تحقيق نسب نمو معينة
مبنية على قطاعات منتجة قادرة على جذب الدولارات
والعملات الصعبة، واعادة مداخيل الناس الى مستويات
مقبولة رغم انها لن تكون مثلما كانت عليه ما قبل العام 2019.
وعن القطاعات التي يجب ان تعطيها الاولوية وتقدّم
الدعم لها، قال فاعور: هذا الامر يحتاج الى دراسة جدوى
يفيد عن حجمها بعد الأزمة، ومدى قدرتها وقابليتها للنهوض
مجددا في ظل الاوضاع المُزرية راهناً، وحجم الاموال التي
تحتاجها ومدى قدرتها على خلق فرص عمل
والحد من الهجرة واعطاء رواتب مقبولة.
وعمّا اذا كان الاحتياطي الالزامي الحالي كاف لإعادة النهوض
مجددا بالاقتصاد، أوضَح: إذا افترضنا وجود دولة فإنّ هذا
المبلغ كافٍ، لافتاً الى انه أكثر من المبلغ الذي
دفع من اجل اعادة اعمار لبنان بعد الحرب.
وتابع: يقدّر حجم الاقتصاد اليوم بنحو 20 مليار
دولار، بينما نحن نملك سيولة توازي نصف حجم
الاقتصاد الوطني بما يعني انّ هذه السيولة كبيرة
جدا. وبالتالي، انّ تأثير ضَخ مليار دولار على
اقتصادٍ بهذا الحجم أكبر بكثير مما كان قبل الأزمة.