بـ53 كلمة، وبإجراءات تبدأ بعد 3 أيام، استطاع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن “يطعج” سعر صرف دولار بأقلّ من 24 ساعة، وأن “يضربه” ويتسبّب بـ”انهيار” غير مسبوق، من 38 ألف إلى 28 ألف،
أي قرابة 10 آلاف ليرة. هبطت قيمة كلّ 100 دولار
نحو مليون ليرة لبنانية بـ53 كلمة فقط…
وبإعلان نيات يبدأ تنفيذه بعد 72 ساعة.
ليست قوّة رياض سلامة هي السبب. ولا كلامه المسموع لدى المصارف المحلية، أو المحترم لدى الصرّافين والمضاربين، وإنّما نتيجة الفوضى التي تتحكّم بالسوق و”الوهم” الذي بات يسيطر على النفوس.
فلنتذكّر جيّداً بأنّ مصرف لبنان هو الجهة الوحيدة التي تملك الليرات، وبالتالي هو الجهة المفترضة التي كانت تمدّ السوق بهذه الليرات من أجل صرف الدولارات لدى الصرّافين وجمعها في خزائنه في نهاية المطاف.
قد يسأل سائل: وهل ارتفع الطلب على الدولار إلى هذا الحدّ ليرتفع سعر الصرف 10 آلاف ليرة (نحو30%)؟ في 11 يوماً سابقة؟ وهل فعلاً كان التجّار والمستوردون يتهافتون على شراء الدولار بهذه الأسعار الجنونية لتلبية الطلب على السلع؟ هل ارتفع استهلاكنا للمحروقات والموادّ الغذائية الاستهلاكية بهذا الكمّ، وفي أقلّ من أسبوعين يمتدّان من الانتخابات إلى أمس الأوّل، حتى يحلّق الدولار إلى هذه الأرقام؟
الجواب بسيط: كلا.
إذاً، ما الذي حصل ولماذا ارتفع الدولار؟ وكيف تحصل هذه العملية كلّها؟
يقول الافتراض البديهي لهذا كلّه إنّ حاكم مصرف لبنان قد صرف الغالي والنفيس من أجل تمرير الاستحقاق الانتخابي بأقلّ أزمات ومشكلات ممكنة. حاول على مدى الشهور الأربعة الفائتة أن يضبط سعر الصرف من أجل حقن الناس بـ”المخدّر الانتخابي”،
ومن خلال توفير ما استطاع إليه سبيلاً من تيار
كهربائي وأدوية وقمح ورواتب وبدلات وزيادات
اجتماعية لموظفي القطاع العام ولوازم تسيير العملية
الانتخابية، بأقلّ كلفة ممكنة على المواطن. إذ لا يُستبعد
أن يكون مصرف لبنان قد سوّلت له نفسه “المسّ”
بأموال الاحتياطي الإلزامي ومساعدات صندوق النقد
الدولي (SDR)، من باب “الاستقراض” أو “الإعارة”، طالم
ا أنّ الحكومة في سبات عميق، ومتخلّية عن مسؤوليّاتها.
أما وقد انتهت الانتخابات، فكان لا بدّ من أن يستعيد مصرف لبنان ما أنفق، وذلك عبر “سحب” الدولارات مجدّداً. وكيف السبيل لصناعة “طوابير” الناس أمام محلات الصرافة: رفع سعره…
ارتفاع سعر الصرف يحتّم دائماً على الصرّافين صرف
دولارات المواطنين بليرات أكثر. يعني هذا أنّه إذا توجّهتَ
إلى الصرّاف ومعك 100 دولار، فإنّ هذا الصرّاف
سيعطيك مقابلها 2.8 مليون ليرة في حال كان الدولار بـ28 ألفاً، وقد يعطيك 3.8 مليون إذا كان سعر الصرف بـ38 ألف ليرة.
هامش المليون ليرة هذا لن يدفعه الصرّاف من جيبه أبداً، وإنّما ثمّة جهة تطلب منه هذه الدولارات بأكثر من 28، وهي فعليّاً هامش ربحه. الصرّاف هو وسيط فحسب لدى جهة أعلى منه،
وهذه الجهة هي وسيطة لدى جهة أعلى وأعلى… إلى أن تصل إلى المورّد الرئيسي للّيرات اللبنانية… الذي هو مصرف لبنان بلا جدال.
بين هؤلاء كلّهم وبين المواطن ثمّة جهة وحيدة (مصرف لبنان) قادرة على تحديد طلبها من الدولارات، وقادرة أن توظّف جميع هؤلاء الصرّافين الصغار والمضاربين لديها من أجل “لمّ” الرقم المطلوب من السوق.
وعليه، فإنّ ارتفاع السعر، الألف تلو الألف، الذي شهدناه في الأيام الماضية كان نتيجة ارتفاع قيمة الطلب على الدولارات لدى الصرّافين بعد انتهاء كلّ عملية:
الجهة “أ” تحدّد طلبها (الكميّة) بسعر محدّد، فتتوزّع “التعليمة” في السوق وتنتشر. وكلّما انتشرت وتوسّعت وزاد عدد الوسطاء وابتعدت عن المركز، انخفض السعر لتحقيق هامش ربح الوسطاء من المضاربين.
ما حصل أنّ الجهة الكبرى التي يُفترض أنّها مصرف لبنان،
أوقفت الطلب فجأة، ثمّ أصدرت بيانها المدمّر هذا الذي نزل كالصاعقة فوق رؤوس الصرّافين والمضاربين: توقّف الطلب فجأة، ثمّ استُتبع ببيان يعكس الآية، بيان آخر أحدث عملية Switching، حوّلت الطلب من الدولار إلى الليرة اللبنانية.
فانهارت الحلقة كلّها وخسر مَن لم يستطع الوصول إلى “الجهة الطالبة” في الوقت المحدّد من أجل تسليمها الدولارات بالرقم المعروض، فسمعنا ما سمعناه من تسجيلات صوتية انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي لصرّافين ومضاربين معروفين بالأسماء، يلطمون ويبكون ويتحدّثون عن خراب بيوتهم وخسارتهم رساميلهم.
كلّ من اشترى دولار لاعلى سعر 35 أو 36 أو حتى 37 ألف ليرة، كان يتوقّع أن تستمرّ هذه الـCycle وصولاً ربّما إلى 40 ألفاً أو أكثر. لكنّ الأمر المفاجىء كان أنّ مصرف لبنان كسر الحلقة في منتصف الطريق ومن خارج السياق المتوقّع، محوّلاً التيّار الجارف صعوداً إلى تيار معاكس أشدّ ضراوة
لكن نزولاً، فتكبّد الصرّافون الخسائر وتوقّفوا عن شراء الدولارات منذ مساء يوم الجمعة، خوفاً من هبوط سعر صرف الدولار أكثر من المتوقّع، فيكونون بذلك قد باعوا ليراتهم بأكثر من قيمتها انتظاراً لِما ستؤول إليه الأمور صباح يوم الإثنين في المصارف. وهذه الأخيرة أجبرها رياض
سلامة على أن تفتح صناديقها لمدّة ثلاثة أيام من الصباح حتى الساعة السادسة مساءً من أجل تلبية طلبات “المواطنين” (وأيّ
مواطنين؟)، والمفارقة أنّ هذا التاريخ يسبق جلسة انتخاب
نبيه برّي بيوم واحد ويليها بآخر، من دون أن نعرف ماذا
سيحلّ بسوق الدولار يوم الخميس المقبل! لكنّ الأكيد أنّ مصرف لبنان لن يستطيع الاستمرار ببيع دولار بلا سقف إلى ما شاء الله..
لكن بمعزل عن هذا كله، وبغض النظر إلى متى سيستمر سلامة بهذه السياسة، فإذا استطاع “المركزي” أن يحصد من السوق منذ ما بعد الانتخابات إلى اليوم 500 مليون دولار على سبيل المثال، فإنّه لن يبيعها كلّها للمواطنين عبر المصارف في هذه الأيام الثلاثة، وإنّما قد يعمد إلى بيع نصفها أو ربّما ربعها أو حتى خمسها.
بهذه الطريقة يستعيد سلامة زمام المبادرة ويعيد
“المجد” قدر المستطاع، ولو إلى حين طبعاً، لمنصّة
“صيرفة”. بذلك أيضاً يعود مصرف لبنان إلى لعبة
“لمّ” الدولارات، لكنّه يعود إليها من عتبة أدنى. عتبة
قد تبدأ مجدّداً من دَرْجَة 27 أو 26 أو ربّما 25 ألفاً… وهكذا دواليك.
بهلوانيات يستطيع سلامة من خلالها تقطيع المرحلة
باستحقاقاتها الداهمة، وبأكلاف قد تكون باهظة على
المواطن وبأسعار السلع قد لا تنخفض بعدما ارتفعت..
لكنّ البهلوانيات في نهاية المطاف هي عبارة عن
“فراطات”، أي أوراق يطبعها، ولا تُكلّفه إلاّ ثمن الحبر والورق.
من ناحية أخرى، وسط انشغال اللبنانيين بلملمة
تداعيات الارتفاع الجنوني دولار وبلوغه عتبة
الـ٣٨ ألف ليرة، وسقوطه المدوّي بأقل من ٢٤
ساعة إلى ٢٨ ألفاً، وانعكاس ذلك بلبلة وتقلبات
في أسعار المواد الغذائية والمحروقات، وعلى كل السلع الاستهلاكية من زراعية وصناعية وتجارية،
وفي ظل غياب أي إجراءات عملية تحمي المواطن، كان رأس السلطة منشغلاً بقرارات نظرية من دون جدوى تمثّلت بتشكيل مجلس وطني لمراقبة سياسة الأسعار الذي يضم أعضاءً من معظم الإدارات العامة، بحسب ما لفت وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام.
مصادر اقتصادية استغربت في اتّصال مع “الأنباء”
الإلكترونية حملة التطبيل والتزمير التي رافقت الإعلان
عن هذا المجلس، سائلةً عن عمل هذا المجلس ودوره
في لجم الأسعار، وما يمكن أن يلعبه هذا المجلس
بالنسبة لتقلبات الدولار، مضيفة “كان الأجدى بهم
إعادة تفعيل مصلحة حماية المستهلك من خلال العدد الكبير من الموظفين الذين جرى توظيفهم بالمحاصصة في الإدارات العامة في السنوات الماضية، ويتقاضون رواتبهم من دون أي إنتاجية.
الخبير المالي والاقتصادي، نسيب غبريل، اعتبر في
حديثٍ مع الأنباء الإلكترونية أنّ ما جرى هذا الأسبوع
سببه سياسي وليس اقتصادي، لأن لا شيء يبرر ما جرى، فلا العملية الاقتصادية تحسنت،
ولا نسبة النمو زادت، ولا حجم الاستهلاك المحلي ارتفع، وكذلك الطلب على الاستيراد الذي يتطلب زيادة الطلب على دولار، مضيفاً “ما جرى سياسي بامتياز فالسوق الموازي غير شفاف، ولا يسمح بالتحكم بالسوق، وتحقيق أهداف سريعة وأهداف سياسية”.
ووصف غبريل ما جرى بالإجراءات الموقتة بانتظار
الاصلاحات ومن أهم بنودها توحيد سعر الصرف، مشدّداً
على أنّ العملية الإصلاحية ضرورية ويجب أن تتم
بأسرع وقت، ومن دونها لن يوقّع الصندوق على
منح لبنان ٣ مليارات دولار فالمهم تطبيق الإصلاحات البنيوية للوصول إلى هذا السيناريو،
مكرراً القول بأنّ “ما حصل هو إجراءات موضوعية مؤقتة، فلا يعتقد أحد أنّها بديلة عن الإصلاحات التي تتطلب إرادة سياسية واضحة تبدأ باستعادة الثقة أولاً وأخيراً”.
https://beirut-elhora.com/category/%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%af/