منذ أن تولّى الرئيس نبيه بري رئاسة مجلس النواب للمرّة الأولى في 20 تشرين الأول من العام 1992، بأكثرية 105 أصوات من أصل 125صوتًا وحتى يوم أمس لازمته ألقاب كثيرة، ومن بينها لقب “الإستاذ”، وهو الأحبّ على قلبه، لما يعنيه له كمعّلم للأجيال.
وقد عُرف الرئيس بري بأنه “صمام أمان الوحدة الوطنية” و”مهندس تدوير الزوايا”، وأطفائجي الحرائق”، و”القريب من الجميع”، و”حاجة وطنية دائمة”، و”الداهية”.
ولأنه كل هذا إنتخبه بالأمس 65 نائبًا، ولأنه كل هذا
لم ينتخبه 63 نائبًا أيضًا، ووضعوا ورقة بيضاء أو
كتبوا شعارات تطالب بالعدالة لضحايا إنفجار
المرفأ، في غياب أي منافس له من الطائفة الشيعية.
النتيجة حسمتها الإنتخابات النيابية عندما فعل “الثنائي الشيعي” المستحيل حتى لا يفوز أي مرشح شيعي خارج عباءة هذا “الثنائي”، لئلا يكون هناك أي منافس آخ
ر للرئيس بري على رئاسة المجلس.
ولو إفترضنا، وهو إفتراض مجازي، أن النائب رائد برو لم يفز كنائب عن دائرة جبيل هذه المرّة كما حصل في المرّة الماضية، حيث فاز النائب السابق المرحوم
مصطفى الحسيني، فإن النائب الشيعي الذي كان من الممكن أن يفوز هذه المرّة أيضًا من خارج سرب “الثنائي الشيعي”
كان لينافس الرئيس بري ولكانت جلسة إنتخاب
رئيس ونائب لرئيس المجلس قد أخذت منحىً مغايرًا،
ولكانت البلاد ذهبت إلى مكان آخر، في ظل هذا الإنقسام الطائفي
العمودي والأفقي، ولكانت دخلت في متاهات غير محمودة النتائج.
لنترك الفرضيات جانبًا ولنتعاطى مع الوقائع المجلسية الجديدة بجدّية وعقلانية، خصوصًا أن مشهدية الأمس لا تبشّر بالخير، وشكّلت خيبة أمل بالنسبة إلى كثيرين
ممن علّقوا الآمال العريضة على القوى التغييرية.
فهذه القوى أثبتت أن ليس لديها رؤية واضحة عن
هويتها السياسية بغض النظر عن الشعارات الجميلة والرنانة، والتي لن تؤدّي إلى أي نتيجة حاسمة، خصوصًا أن الكتل
الكبرى داخل المجلس تحسن اللعب على التناقضات بحرفية وشطارة، وهذا ما رأيناه في عملية التصويت للرئيس بري
وللنائب الياس بو صعب. وستعاد الكرّة ذاتها في
الإستحقاقات المقبلة، والتي سيكون لمجلس النواب فيها كلمة الفصل، سواء بالنسبة إلى تسمية الرئيس العتيد لتشكيل حكومة جديدة،
أو بالنسبة إلى إنتخاب رئيس جديد للجمهورية.
ما قاله الرئيس بري في كلمة الشكر توحي بأن الأمور سائرة نحو منحدرات اقّل خطورة، خصوصًا إذا ما لاقاه الجميع إلى منتصف الطريق، وهذا بعض مما قاله:
– 128 نائباً “نعم” لمجلس نيابي يرسخ مناخات
السلم الأهلي والوحدة الوطنية، و128 نائباً “لا”
لمجلس يعمق الإنقسام بين اللبنانيين ويعيد إنتاج مناخات الإحتراب الداخلي
ويوزعهم على محاور الإنقسام الطائفي والمذهبي.
– لنكن 128 نائباً “نعم” لإنجاز الإستحقاقات الدستورية
في موعدها و128 نائباً “لا” للفراغ في أي سلطة.
– لنكن 128 نائباً “نعم” جريئة ودون مواربة للإنتقال بلبنان من دولة الطوائف والمذاهب والمحاصصة الى دولة المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص الدولة
المدنية. – لنكن 128 نائباً”نعم” صريحة وقوية وواحدة موحدة ضد أي تفريط بحقوق لبنان السيادية في ثرواته المائية والنفطية
مع فلسطين المحتلة، و128 نائباً “لا” للتنازل أو المساومة
أو التطبيع قيد أنملة في هذه الثروات تحت أي ظرف من الظروف ومهما بلغت الضغوط.
– لنكن 128 نائباً “نعم” لحفظ حقوق المودعين
كاملة وإقرار وتنفيذ كافة القوانين المتصلة بمكافحة
الفساد والهدر وإسترداد الأموال المنهوبة.
ولكن كل هذه “النعم”، وهي في المبدأ أكثر من جيدة، لا تكفي. بل المطلوب من الرئيس بري، وهو الذي يقول عن نفسه بأنه “أمّ الصبي”، أكثر بكثير مما كان مطلوبًا منه
في السابق، وأكثر بكثير مما هو متوافر من إمكانات، وأكثر بكثير من “اللهم إني بلّغت”، وأكثر بكثير من “ما في اليد حيلة”، وأكثر بكثير من “العين بصيرة واليد قصيرة،
وأكثر بكثير من إدارة أزمة، وأكثر بكثير من المساكنة مع الوضعين الإقتصادي والمالي السيئين.
ما شهدناه بالأمس في أول جلسة مجلسية لا يوحي
بأننا ذاهبون في الإستحقاقات الآتية إلى ما يطمئن الأجيال الطالعة، وهي تنتمي إلى كل الفئات والطوائف.
المطلوب اليوم وأكثر من أي وقت مضى قلب الطاولة رأسًا على عقب والبدء من مكان ما في مسيرة طويلة للقضاء على الفساد المستشري في كل مفاصل الدولة.
المطلوب من الرئيس بري إحتضان
النواب التغييريين، والسير معهم عكس التيار علّ وعسى.
https://beirut-elhora.com/category/%d8%a7%d8%ae%d8%a8%d8%a7%d8%b1-%d9%85%d8%ad%d9%84%d9%8a%d8%a9/