طَلَب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بأن يتم تحويل رواتب القضاة على اساس سعر صرف 8000 ليرة للدولار الواحد، لم يمر مرور الكرام… فحتى وزير العمل في حكومة تصريف الاعمال مصطفى بيرم “إستغرب إدارة الانتقائية غير المدروسة والإرتجالية”، في وقت الجميع يعلم ان القاضي لا يمكن ان يحكم الى بالعدل والانصاف اذا لم يشعر انه مُنصف.
ان الواقع القضائي الراهن يعيدنا الى مطلع التسعينيات من القرن الماضي حين قدم القاضي الراحل جوزيف غمرون استقالته الى وزير العدل بهيج طبارة (1992 -1995) وعبر فيها عن معاناة تتكرر اليوم، اذ قال: “أستقيل لأني
لم أعد أستطيع التحمّل، أن يقف قاض على باب مستشفى، مصاباً بنوبة اختناق كادت تقضي عليه، فيُمنع من الدخول لأنه لا يحمل في جيبه ألف دولار… ولأني لم أعد أستطيع التصوّر أن يصل القضاة إلى آخر الشهر وهم
المؤتمنون على أرواح العباد وأرزاقهم وليس في جيبهم ما يؤمن شراء كتاب لهم ولا قميص لأولادهم ولا حتى أحياناً رغيف، وهم على الذل قاعدون… ولأني وأنا القاضي، لم أعد أستطيع الاحتماء في حمى دولة، يكرم فيها
الشاويش، ومن حقه التكريم، أكثر مما يكرّم كبير من القضاة. وقد تعلمت في البيت وفي المدرسة وفي الكلية بأن حرية المواطن وكرامته واستقلاله لا تكون إلا من خلال قضاء حرّ وصريح ومستقل. هذه المدرسة التي علمتها
وعشتها طوال تلك السنين إنها تستقيل اليوم …، إنها تستقيل من خلال من سبقني من القضاة ومن خلال من يسابقني منهم إلى الاستقالة”.
ما اشبه الامس باليوم، حيث ان الاستقرار مادي اساسي لدى القضاء من اجل ارساء العدالة وابعاد الرشوة واي مغريات اخرى عنهم، فالقضاء ركن من أركان دولة القانون والديموقراطية والعدالة، والقضاء لا يصح تصنيف أعضائه
في عداد الموظفين، حتى ولو كانوا، على غرار هؤلاء، يتقاضون رواتب، فهم أعضاء في سلطة من سلطات الدولة، وخصوصيتهم هذه مستمدة من طبيعة أعمالهم ومن نظرة الدستور إليهم. وللتأكيد على هذه الخصوصية، تم إفراد
سلاسل مستقلة لرواتب القضاة، منفصلة عن رواتب موظفي القطاع العام، حتى في ظل التشريع المعمول به حالياً.
امام هذا الواقع يشرح قاضٍ متقاعد، انه في كل دول العالم الاجنبية
والعربية دائما رواتب القضاة تكون هي الاعلى، قائلا: على الرغم من اهمية الاجهزة الامنية والعسكرية لكن لا يضبط الامن ولا تتم اي
مداهمة او توقيف او حتى اخلاء سبيل الا باشارة من القضاء،
وبالتالي هل يعقل ان نذهب الى القاضي ليحل مشاكلنا في حين ان راتبه هو الادنى!
وفي هذا السياق، يشير القاضي الى ان الثورة، كما العهد والنواب والوزراء …
يدعون الى المحاسبة ومكافحة الفساد لكن من يقوم بهذه المحاسبة الا الجسم القضائي؟
وكيف يمكن ان نبني جمهورية جديدة على اساس المحاسبة
والعقاب اذا هذا القاضي كان “فقيرا”، محذرا من ان عدم تحسين
رواتب القضاة سيفتح المجال امام “واسطة” او “الرشوة”.
وعن الانتقادات المتعلقة بالراتب على اساس 8000 ليرة للدولار، قال القاضي:
على الشعب اللبناني ان يهلل كلما ارتفع راتب القاضي، قائلا: موضوع الاستقلالية
القضائية ليس الحلّ، دون تحسين المستوى المادي للقاضي، مع العلم
ان هذه المعضلة هي احد اهم مشاكل العدلية منذ اكثر من 35 سنة.
وهنا استطرد القاضي عينه الى التنويه بالقضاة الذين يقومون بواجبهم على
الرغم من الازمة المالية، معتبرا ان كل قاض في لبنان هو مستقل، وحين ترفع رواتبهم فانهم يصنعون المعجزات.
وردا على سؤال، اعتبر القاضي المتقاعد ان منصة صيرفة، اصبحت منطلقا للتداول المالي،
ولا يجوز للقضاة ان يكونوا خارجها، داعيا الى تحرير القاضي من السلاسل التي تكبله اقتصاديا.
وعن تغيب القضاة عن المحاكم، قال: انهم لا يذهبون الى مراكز عملهم
بسبب غلاء البنزين او بسبب انقطاع الكهرباء عنه او بسبب عدم توفر القرطاسية…
فالقلم والورقة هي عدة العمل! مكررا انه حين يُحسن وضع القاضي، فانه
يعود الى عمله والمحاكم تعود الى نشاطها… فهل يمكن ان يعمل مجانا!
ويوضح القاضي ان الدول تقوم على 3 قواعد: الامن، الوضع المالي للبلد،
والقضاء الذي يتمتع بالدور المحوري بين القاعدتين الاوليين، في كونه يبت في الخلافات الناشئة على خلفيات مالية او امنية.
ويخلص الى القول: فاقد الشيء لا يعطيه ، فلا يمكن للقاضي ان ينصف الناس
وهم غير منصَف، كما ان الواقع الحالي لرواتب القضاة كفيل بدفع عدد
من القضاة المميزين وذوي الكفاءة العالية الى تقديم استقالاتهم!
بقلم : ” عمر الراسي “