المصدر: اساس ميديا
صمّم مصرف لبنان أدوات سوق القطع خلال السنة الأخيرة لتلائم دوراً وحيداً له في السوق: أن يتدخّل بائعاً للدولار. فماذا يفعل الآن بعدما أصبح الدولار معروضاً صافياً في السوق الموازية، لا مطلوباً؟
يحتاج الأمر إلى تكتيكات مختلفة للملمة دولارات المغتربين من محلّات الصرافة، والحؤول دون بقائها حبيسة اقتصاد الظلّ.
ستحدّد الأيام المقبلة الوجهة، بعد أن يتّضح مقدار تدفّق العملة الصعبة من المغتربين والسيّاح، وما إذا كان كافياً لتحقيق فائض في ميزان المدفوعات
حين أطلق مصرف لبنان منصّة “صيرفة” في أيار 2021 كانت مهمّتها المعلنة صناعة السوق، بحيث تدخل البنوك في سوق الصرافة لتزويد المستوردين، خصوصاً بما يحتاجون إليه من قطع أجنبي، وتُجبر شركات الصرافة على تسجيل عمليّاتها على المنصّة لتوفير شيء من الشفافية لحجم عمليّاتها والأسعار التي تتمّ بها.
لكنّ الفجوة بين سعر المنصّة وسعر السوق الموازية فرضت حقيقتين تحوّلتا إلى جزء من هيكل سوق القطع:
1- وفّرت المنصّة فرصة الربح الانتهازي (arbitrage). إذ عمد كثير من التجّار والمضاربين إلى بيع الدولارات في السوق الموازية (السوداء) واستخدام المتحصّلات بالليرة لإعادة شراء الدولار بسعر أرخص من البنوك، أي من مصرف لبنان في حقيقة الأمر، عبر منصّة “صيرفة”.
2- وبسبب الفجوة السعريّة أيضاً، تحوّلت “صيرفة” في واقع الأمر إلى سوق ذات اتجاه واحد، يبيع من خلالها مصرف لبنان الدولارات للمستوردين ابتداءً، ثمّ للعموم، بعد توسيع نطاقها في التعميم 161. وعلى الرغم من أنّ حاكم مصرف لبنان قال في مقابلته الأخيرة أنّ تداولات المنصّة فيها البيع وفيها الشراء، إلا أنّه لم يقدّم دليلاً واحداً على صدقيّة ما يقوله، وكان الأجدر أن يُصدر بيانات يوميّة لحجم البيع وحجم الشراء، بدلاً من إصدار رقم مجمل لا يعطي صورة كاملة عن وضع السوق.
في ظلّ هاتين الحقيقتين أدّت المنصّة دورها الوظيفيّ بما هي قناة لتمويل السوق بالقطع الأجنبي من احتياطات مصرف لبنان والبقيّة الضئيلة من أموال المودعين، ليس فقط وفق ما يحتاج إليه ميزان التجارة الخارجية وحركة الخدمات مع الخارج، وإنّما أيضاً وفق ما تقتضيه اللحظة السياسية من ضبط لسعر الصرف أو إطلاق العنان له.
العجيب أن يفخر حاكم المصرف المركزي بأنّه لم يستخدم سوى 2.2 مليار دولار من الاحتياطات منذ بداية العام، وهذا رقم يعادل 16% من الاحتياطات (!)، ويعلم الحاكم كما يعلم كلّ المطّلعين أنّ هذا الرقم الضخم لم يُستخدَم لتغطية عجز ميزان المدفوعات حصراً، بل كان عرضة للاستغلال والاستنسابية والواسطة من أصحاب الحظوة في البنوك وشركات الصرافة والمضاربين، وهذا ما دفع سلامة إلى إدخال تعديلات
وضعت سقفاً لا يتجاوز 500 دولار لِما يمكن للأفراد الحصول عليه
من دولارات المنصّة، والطلب إلى البنوك التشدّد في ما تمنحه
من الدولارات للشركات. وأدّى ذلك بالفعل إلى انخفاض ملحوظ
لمعدّل التداولات اليوميّة على المنصّة، من نحو 200 مليون
دولار في بعض أيام شهر أيار إلى هامش يراوح بين 40 و70 مليون دولار في الأسبوعين الأخيرين.
العبرة الآن في ما سيفعله رياض سلامة بعد تحوّل
السوق من الطلب على الدولار إلى الطلب على الليرة.
في سوق كهذه لم تعُد المنصّة نافعة، لأنّ ما يحتاج إليه مصرف لبنان
الآن ليس إلا أدوات لامتصاص دولارات المغتربين وإدخالها إلى “السيستم”،
ومَن هذا المجنون الذي يبيع الدولارات عبر منصّة “صيرفة” إذا كان
قادراً على البيع بعلاوة تزيد على 10% في السوق الموازية؟
ويزيد المهمّة عسراً استشراء الاقتصاد الورقيّ وانعدام الثقة بالبنوك وانتهازية شركات تحويل الأموال.
خلافاً للأشهر الثلاثة عشر الماضية، يحتاج مصرف لبنان إلى تصميم مختلف
لسوق القطع
يقلب وضعيّة “صيرفة”
من سوق توفّر فرصة arbitrage لمشتري الدولار، إلى سوق تعطي هذه الفرصة لبائع الدولار،
وهذا غير ممكن إلا بسدّ الفجوة بين سعرَيْ “صيرفة” والسوق الموازية. ولسدّ الفجوة، يبدو حتى الآن
أنّ مصرف لبنان سيختار رفع سعر صرف الدولار في “صيرفة”، بدلاً من السماح
له بالتراجع في السوق الموازية. بل قد لا يكون مفاجئاً أن يسمح لسعر “صيرفة” بتجاوز السوق الموازية لبعض الوقت.
غير أنّ التحدّي، الذي سيفرض نفسه بعد ذلك نتيجة شراء البنك المركزي
للدولار من دون السماح لسعر الصرف بالانخفاض كثيراً عن المستويات الحالية،
هو أنّه سيُضطرّ إلى تكبير حجم الكتلة النقدية بالليرة مجدّداً، مع ما يعنيه
ذلك من زيادة الضغوط التضخّمية.
ستحدّد الأيام المقبلة الوجهة، بعد أن يتّضح مقدار تدفّق العملة
الصعبة من المغتربين والسيّاح، وما إذا كان كافياً لتحقيق فائض في
ميزان المدفوعات. الغالب حينئذٍ أنّه سيسيل لعاب مصرف لبنان لجمع الدولارات، ولن يتركها للسوق السوداء.