تصطدم وزارةُ المالية بإشكالاتٍ مُسْتَعْصِية في استكمالِ مَهمة الاستجابة المُلِحَّة لإعادة هيكلة بنود مشروع قانون الموازنة العامة للسنة الحالية، توطئةَ لإقراره من الهيئة العامة لمجلس النواب عبر بوابة لجنة المال والموازنة التي وضعت «تحديد سعر صرف الليرة» الذي سيتم اعتماده في مجاليْ الإنفاق والواردات كضرورةٍ مفصلية ومسبقة لبلوغِ مرحلة التشريع.
وإذ يبدو ظاهرياً أن الشرطَ النيابي والدولي في الوقت عيْنه سهْل المنال، فإنه وبحسب مسؤولٍ معني تواصلت معه «الراي» يستبطن صلابةَ «المُمْتَنِع» في مقارباته ومآلاته، بعدما آطاحتْ الانهياراتُ غير المسبوقة بكامل مقوّمات المنظومة النقدية، وأفضت إلى تقلصات حادة للغاية في احتساب الدخل الفردي جراء الهبوط الحرّ والمتوالي للناتج المحلي على مدار ثلاث سنوات، من مستواه الأعلى الذي سجّل نحو 55 مليار دولار نهاية العام 2018 الى أقل من 22 مليار دولار حالياً.
ومع الإدراك المسبق بأن المشهد المالي برمّته يقع تحت تمحيص
«العيون المفتوحة» لخبراء صندوق النقد الدولي الذين أَصرّوا على
إدراج الموازنة العامة ضمن سلّة الالتزامات الموجِبة على السلطتين
التنفيذية والتشريعية قبل الانتقال إلى محطة إبرام اتفاقية برنامج
التمويل المعلَّقة أساساً على مَشابك خطةِ إنقاذٍ متكاملة،
فإن حجم المسؤولية وجسامة الانعكاسات الفورية واللاحقة لقرار سعر الصرف الجديد الذي سيضاعف
تلقائياً أكلاف الخدمات الحكومية والعامة، يتعدى بثقله النوعي صلاحيات
وزارة المال بمفردها، ثم يرتقي الى ما تمثله من مرجعية سياسية وفق التوزيع الطائفي للسلطات.
وبينما تضغط لجنةُ المال والموازنة لتبيان الرؤية الحكومية لمعالجة
سعر الصرف في الموازنة، كمدخلٍ لازمٍ لإقرار مشروع الموازنة المنجز في اللجنة بنسبة 90 في المئة، والطلب
من وزارة المال تزويدها قبل الجلسة التشريعية المقبلة بتقرير
مفصل عن كيفية الإنفاق، يقرّ رئيسها ابراهيم كنعان بأن «الناس
غير قادرين على دفع ضرائب ورسوم على سعر صرف صيرفة
أو السوق الموازية. فهناك ركود اقتصادي بنسبة 90 في المئة
لا يجوز معه رفع الرسوم والضرائب، لذلك يجب وضع خطة متكاملة
وتعزيز النمو والعمل على الثقة بالإقتصاد اللبناني، قبل الحديث
عن أسعار صرف عالية أو واقعية أو منطقية لتحديد الضرائب».
وبدا واضحاً، بحسب قراءة المسؤول، أن قرار سعر الصرف بقياسات
الانهيارات المحقَّقة يتطلب توافقاً سياسياً عريضاً على مستويات السلطات كافة من تنفيذية وتشريعية ونقدية،
تتولى حشده حكومة «عاملة» بصلاحيات مكتملة. وهو ما قاربته
الحكومة الحالية التي أوردت في خطتها الموجَّهة الى صندوق النقد – على اعتبار ما سيكون
وما لم يحصل حتى الساعة – «قمنا بتوحيد سعر الصرف للمعاملات المصرَّح بها (إجراء سابق) بعد تحويل منصّة»صيرفة«إلى منصة تَداوُل ملائمة تَجْري من خلالها جميع المعاملات المصرّح بها
ويُحدَّد سعر الصرف فيها على أساس يومي».
بذلك، يتضح ان الهدف المنشود لسعر الصرف الجديد يتطلب قراراً أشبه
بالانتحار السياسي لطرف منفرد أو وزير بعيْنه، كونه سيتماهى حُكْماً
مع معطيات منصة صيرفة، حيث يبلغ سعر الدولار الواحد حاليا نحو 25.5 الف ليرة،
أي ما يماثل نحو 17 ضعف السعر الرسمي الحالي والذي يتم اعتماده في بيانات المالية
العامة الى حين إقرار الموازنة، وبما يشمل سلاسل الرتب والرواتب للقطاع العام الذي يضم
أكثر من 300 الفاً من المدنيين والعسكريين، وموارد الخزينة العامة كافة باستثناء تعديلات متأخرة أصابت رسوم الاتصالات والقليل من مصادر الجباية في المطار والمرافئ.
أما في التبريرات، فقد فنّدتْها الحكومةُ مسبقاً، وفي سياقاتها ان النظام
النقدي أصبح معقّداً ومشوّهاً بسبب تعددية أسعار الصرف وصار عُرضة
لسوء الاستخدام نظراً لافتقاره إلى الشفافية والوضوح.
وقبل حدوث الأزمة، كان مصرف لبنان يُجْري عمليات مالية غير تقليدية لجذب
التدفقات النقدية للداخل ودعم تثبيت سعر الصرف، وبصورة غير مباشرة، تمويل عجز الموازنة.
وفي أعقاب خروج رأس المال والودائع الكبرى، نشأت ظاهرة تعدُّد أسعار الصرف،
لتخسر العملة 90 في المئة تقريباً من قيمتها في السوق الموازية منذ اكتوبر 2019،
الأمر الذي زاد من حدة التضخم ليصل معدّلُه إلى ثلاثة أرقام (تعدّى واقعيا الأربعة أرقام )،
في حين أدى دعم بعض الواردات إلى استنفاد حيّز كبير من احتياطات العملات الصعبة.
الراي الكويتية