تعددت المسوّغات وكثرت النقاشات والنتيجة واحدة : دخل قرار رفع تعرفة الإتصالات حيّز التنفيذ أول الشهر الجاري.
قبيل هذه الأزمة الجديدة، إستبق مستخدمون من ذوي الدخل المحدود وما دون، وتحديدا أصحاب الخطوط مسبقة الدفع، تاريخ تنفيذ القرار بتعبئة هواتفهم لسنة كاملة مع كمية من الدولارات تبخّرت لاحقا، فيما استغنى آخرون عن خدمات الهاتف، على أن المضطر منهم تجرّع مرارة الأسعار الجديدة، فأعمالهم “الأون لاين” مهددة، أمّا بالنسبة لاشتراك “الواي فاي”، بمعزل عن شرعيتها من عدمها، فتبدأ من 400 ألف ليرة شهريا.
من منّا لا يتذكر تصريح وزير الإتصالات في حكومة تصريف الأعمال جوني قرم الذي بشّر فيه اللبنانيين في كانون الأول 2021 بأنّه “عاجلاً أم آجلاً سترتفع الأسعار…”، مبرّرا أنّ الوزارة مجبرة على تأمين أموال بشكل شهري لشراء المازوت، وأنّه سيضع خطة مدروسة، بشكل أن يكون التأثير في ذوي الدخل المحدود بسيطاً، وأن يكون الارتفاع نسبيا، وإيجاد حلول لشركات “الإنترنت” غير الشرعية. ولكن للأسف لم يتحقق أي شيء من وعود الوزير سوى زيادة التعرفة.
يشار إلى أنّه منذ بضعة أيّام، صدر عن “تحالف متحدون” بيانا أعلنوا فيه أن “مجلس شورى الدولة ” قرر إبلاغ الدولة اللبنانية، ممثلة بهيئة القضايا، “طلب وقف تنفيذ مرسوم زيادة التعرفة على الإتصالات، في مراجعة تحالف متحدون التي سجلت برقم 24014/2022، والتي ينظر فيها رئيس المجلس القاضي فادي الياس”.
القرار مخالف للدستور
في قراءة قانوينّة معمّقة، يرى الباحث الدستوري الدكتور جهاد اسماعيل لـ “الديار” أنّ قرار رفع التعرفة على “الإتصالات” يخالف القواعد التالية:
– أولا: الدستور، وتحديدا الفقرة “ج” من مقدمة الدستور، حيث كرّس المشرّع الدستوري وجوب تأمين العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل، فيما أن قرار رفع التعرفة “الاتصالات” بشكل غير مألوف، من شأنه أن يحرم شريحة كبيرة من المجتمع اللبناني من هذه الخدمة، بعد حصر الاستفادة منها بطبقة اجتماعية معيّنة.علاوةً على أن سيادة الدولة على العملة الوطنيّة، هي مصداقٌ للمادة 1 من الدستور :” لبنان دولة مستقلة ذات وحدة لا تتجزأ وسيادة تامة”، ذلك أن القرار المشكو منه يكرّس العملة الاجنبية على حساب العملة الوطنية.
– ثانيا: يخالف القرار الاعلان العالمي لحقوق الانسان، وتحديدا المادة 19 منه الّتي تكرّس حرية المواطنين دون استثناء، في التماس الأنباء والأفكار ونقلها إلى الآخرين دون حدود، في حين أن القرار المشكو منه يقيّد حرية التواصل والاتصال، لا بل يعدمها عند شريحة كبيرة من اللبنانيين.
– ثالثا: يخالف القرار قانون تنظيم قطاع الاتصالات رقم 431/2002، الّذي يكفل مبدأ وصول خدمات الاتصالات و”الانترنت” إلى جميع المواطنين، فيما أن هذا القرار يجرّد أيّ إمكان في المساواة والعدالة في الاستفادة من خدمة الاتصالات.
– رابعا: يخالف المادة 281 من المرسوم الاشتراعي رقم 126/1959 بشأن تحصيل التعرفة بالليرة اللبنانية، في حين أن الالية الجديدة في تحصيل التعرفة على الاتصالات تُقاس بالعملة الاجنبية وقيمتها السوقية أو الفعلية..
كيف يمكن إبطال القرار؟
حول الحلول الواجب اتباعها، إمّا لإبطاله أو وقف تنفيذه، يشير إسماعيل إلى أنّه يجوز، مبدئيا، لكلّ متضرر من المرفق العام، أن يحتكم للقضاء الاداري ( مجلس شورى الدولة) في مواجهة القرارات الصادرة عن هذا المرفق، بغية إبطالها وتصحيح النتائج المترتبة عنها، لذلك، وبعد ثبوت الضرر الفادح أو الجسيم الناجم عن قرار زيادة التعرفة على الإتصالات، من دون مراعاة لأوضاع الناس الاجتماعية والاقتصادية، صار لزاما عند المقاضاة، ولعلّة تجاوز حدّ السلطة، إبطال القرار امام مجلس شورى الدولة سندا للمادة 108 من نظام مجلس شورى الدولة الّتي تنصّ على أن: “على مجلس شورى الدولة أن يبطل الاعمال الادارية المشوبة بعيب من العيوب.. إذا اتخذت خلافًا للقانون…”.
اضاف: كما يمكن، من حيث المبدأ، المطالبة بوقف تنفيذ القرار الاداري المشكو منه إلى حين النظر في مشروعيته وإبطاله عند ثبوت مخالفته للقانون والمبادئ القانونية العامة، إلا أنّ قرار زيادة التعرفة على الاتصالات هو قرارٌ تنظيمي، والمراجعة القضائيّة، بحسب المادة 77 من نظام مجلس شورى الدولة، لا تُوقف التنفيذ إذا كانت ترمي إلى إبطال مرسوم تنظيمي”، من دون أن يحجب هذا الحاجز القانوني في ضرورة انتهاج مجلس شورى الدولة، بدعوى الظروف الإستثنائية المكرّسة في الإجتهاد الإداري، نهج الحدّ من تداعيات هذا القرار على ما تبقّى من ثروات المواطنين، ليصار إلى وقف تنفيذه بقرار إعدادي أو تمهيدي، على اعتبار أن القوانين وُضعت لكي تطبق في الحالات العادية لا الإستثنائية، لأنّ نظريّة الظروف الاستثنائية تخلق شرعية استثنائيّة يجب تطبيقها في سبيل الحفاظ على الإستقرار الاجتماعي أو الاقتصادي.
مصير الدعوى المقدّمة من “متّحدون”
وعن مصير الدعوى المقدّمة من قبل “تحالف متحدون”، شرح إسماعيل: “قد لا يستجيب مجلس شورى الدولة، كما حصل في العديد من الدعاوى، لطلب وقف التنفيذ استنادًا للمادة 77 من نظام مجلس شورى الدولة بشأن عدم جواز وقف تنفيذ القرارات التنظيمية، أمّا اذا أوقف المجلس تنفيذ القرار المشكو منه أو أبطل هذا القرار، فإنّ الأحكام الصادرة عن مجلس شورى الدولة، بحسب المادة 93 من نظام مجلس شورى الدولة، ملزمة للإدارة ( وزارة الاتصالات)، وعلى السلطات الإدارية أن تتقيّد بالحالات القانونية كما وصفتها هذه الأحكام، وأن تنفذ في مهلة معقولة الاحكام المبرمة الصادرة عن مجلس شورى الدولة تحت طائلة المسؤولية”.
جباعي: أرباح الشركتين ستزيد
بمئات ملايين الدولارات
الخبير الاقتصادي الدكتور محمود جباعي يلفت لـ “الديار” الى أنّ سعر الإتصالات اليوم أصبح فعليا على سعر الدولار اليومي، لأنّ سعر صيرفة قريب جدا منه، كما أنّ معظم بائعي الخطوط يبيعون وفق سعر الدولار اليومي، مشيرا إلى أنّ التسعيرة رفعت ما بين 16 إلى 17 ضعفا بالحد الأدنى، في المقابل راعت شركتا “ألفا” و”تاتش” المعايير العالمية للإتصالات من خلال تخفيض كلفة الدقيقة، بحيث كان فتح الخط سابقا يساوي 36 سنتا، وقد يخسر المشترك الدقيقة كاملة، لكن رغم ذلك لا تزال الشركتان تحمّلان المواطنين أعباء غير منطقية وغير واضحة.
وعن قيمة الأرباح التي يمكن أن تراكمها شركتا الخلوي نتيجة رفع التعرفة؟ ومن يضمن أين ستذهب الواردات، لا سيما بعد نهب القطاع سنوات طويلة؟ يجيب جباعي أنّ أرباح الشركتين ستزيد عما قبل، وتقدر بمئات ملايين الدولارات قطعا، ولا نستطيع تحديد الرقم بدقة بانتظار تحديد حجم الطلب الفعلي كيف سيكون في المرحلة المقبلة، تحديدا في ما خص الهواتف الثابتة، فالكثير منها سيتحوّل إلى بطاقات مسبقة الدفع، لأنّ رقم فاتورة الهاتف الثابت سيكون كارثيا، وستتخطّى الفواتير مليون ليرة بالحد الأدنى لمن يتواصل بنسبة قليلة.
واكد أنّه لا ضمان اليوم لمصير هذه الأرباح، بغياب الرقابة الحقيقية ،
ما دام أنّ شركتي “ألفا” و “تاتش” مسيطرتان بشكل كلّي على الأرباح،
وحتى “أوجيرو” لا نعرف من يتموّل فيها، ووزير الإتصالات كان واضح
حين قال في حديث تلفزيوني إنّ إحدى الشركتين تموّل حزبا سياسيا على مدى 30 عاما،
وهذا كلام خطر جدا يكشف أنّ الأرباح لا تذهب إلى الدولة، وفي
التركيبة اللبنانية الحالية لا أحد يضمن أن تذهب إليها، خاصة
أن ديوان المحاسبة تحدث عن أكثر من 5 مليار دولار هدرا في
قطاع الإتصالات، ولم تفعل الدولة شيئا حتى اليوم، ولم يحاسب أحد.
المواطن هو الخاسر الأكبر
حول خسائر المواطن، لا سيما لمن يعتمد على “الإنترنت” في عمله،
والإفادة التي يمكن أن ينعم بها في ظلّ الحديث عن طرح بطاقات
اقتصادية في الأسواق، يرى جباعي أنّ المواطن هو الخاسر الأكبر
اليوم بسبب الإنهيار المستمر لقدرته الشرائية، وعدم قدرة الدولة
على تصحيح الأجور، فالرواتب بالليرة اللبنانية
لا تزال تحتسب وفق 1500 ليرة، وارتفعت نحو 25% فقط، وفيما يستوفى
سعر الاتصالات بأكثر من 25 ألف ليرة ، ولا يزال راتب المواطن على 4000 ليرة.
وتوقّع أنّ يوقف العديد من الناس خدمات هاتفية كثيرة، مستغربا الإستعجال
بإصدار القرار قبل الإتفاق على الموازنة وعلى أي سعر صرف ستحدد الرواتب
والأجور، وكذلك تراجع عدد المنتسبين للخطوط الثابتة بنحو 40 إلى 50% عبر تحويلها
إلى مسبقة الدفع، وانخفاض حجم الإشتراك والبطاقات.
بين القرار والنهوض بالقطاع…
تصحيح أجور وخصخصة
منذ فترة، فنّد تقرير ديوان المحاسبة المخالفات ومزاريب الهدر في قطاع
الإتصالات، ولكن لم تتم محاسبة أي أحد أفرادا وشركات أفسدوا في الوزارة وأوصلوا القطاع إلى الإنهيار.
وفي سياق متّصل، ذكر جباعي أنّ شكاوى عديدة قدمت الى مجلس شورى الدولة،
لافتا إلى عدم قانونية القرار ، لان الوزارة لم تراعِ أصول الليرة اللبنانية
التي لا تزال ثابتة على 1500 ليرة، ولا حتى مبنية على موازنة عامة مثبتة
بالمجلس النيابي على هذا السعر، وأنّه من المفروض وقف وإبطال القرار
وإعادة النظر به، وانتظار تسعير الرواتب والأجور، أو زيادة التعرفة تدريجيا تبعا لتصاعد الرواتب والأجور.
وفي وقت يقرّ جباعي بمعاناة القطاع في ظل ارتفاع التكاليف، يرى
ضرورة إحداث توازن بين الزيادة وقدرة المواطن الذي هو أصلا مشترك ومفعّل للقطاع، لافتا إلى أنّ لبنان هو البلد
الوحيد الذي تدفع فيه ثمن البطاقة كلّ شهر، وهذا ليس قانونيا ولا
يساهم في تفعيل القطاع، والحل الجذري هو الخصخصة وفتح مجال
لشركات دولية بأسعار عالمية ومنافسة تؤمن ايرادات للدولة وتخفف
عنها نفقاتها، وتقدم سعرا منطقيا وخدمة مميزة للمواطن، والحل الشامل
للمواطن هو النظر بموضوع الرواتب والأجور.
خلاصة القول.. لماذا تمّت لبننة الأرصدة منذ البداية،
إذا كانت الوحدة المعتمدة وفق نظم الشركات هي الدولار الأميركي،
إن لم يكن بغرض “شفطها”؟ لماذا لا يتم تركيب طاقة شمسية والإستغناء عن المازوت،
ما دام أنّه من أبرز العوامل المهدّدة لاستمرار القطاع؟ لماذا ولماذا؟ نقول:
حماية القطاع ليست مسؤولية المواطن وحده، فعلى الدولة والشركات مسؤولية أكبر،
فاليوم المواطن يسلب منه حق التواصل وخدماته ليصبح تعليمه وعمله مهددين
كما لقمته وصحته قبلا، فماذا سيحل به أكثر؟
يمنى المقداد – الديار