حُمّى اقتحام المصارف وهستيريا القتل والفرار من البلاد
المصارف وهستيريا القتل والفرار
تتفشى في الديار اللبنانية الممزقة، وتتسابق موجات عدوى ظواهر ثلاثة متزامنة ومتدافعة في هذه الأيام، فتنبئُ عن حال اليأس والغضب والاهتراء والتحلل المندلعة على الغارب
بين أهالي هذه البلاد الذين فقدوا الأمل في بصيص ضوء يلوح في نفق حياتهم المظلم،
ولم يعد في وسعهم السكوت كسواهم عما هم فيه من هوانٍ ومذلة.
قد تكون الظواهر الثلاثة المعنية قمة جبل البؤس العميق المكنون في صدور الغالبية العظمى من أهالي لبنان:
– اقتحامُ مودعين مصارف لاستعادة أموالهم المحجوزة فيها منذ نحو 3 سنوات،
من دون أن يلوح في الأفق احتمالُ معرفتهم مصيرها ومتى يمكنهم استعادتها
والتصرف فيها، بينما هم يغرقون في حال من الكآبة والعوز.
– تزايد جرائم القتل بدوافع متنوعة: السطو، الثأر، الانتقام، والخلافات العائلية والزوجية…
وغالبًا ما تحاول تيارات وأحزاب ونعرات أهلية وطائفية إلصاق هذه الجرائم (السطو خصوصًا)
باللاجئين السوريين، لتصوِّر أن أهل لبنان مسالمون وبراءٌ من الإجرام.
– تكاثر فرار لبنانيين معدمين (خصوصًا في الشمال الطرابلسي والعكاري)
في قواربَ سريعة العطب وتغص بهم، لبلوغ الشواطئ الأوروبية، فيموت بعضهم غرقًا قبل بلوغها.
وبلغت هذه الظواهر المتسابقة ذروتها في الشهرين المنصرمين. فالزورق الذي طارده
قارب للجيش اللبناني فغرق بعشراتٍ من الفارين قرب شاطئ طرابلس،
لم تنجح غواصة صغيرة استُقدمت من الهند في العثور على جثثهم. ولا يزال عشرات
سواهم من الفارين مشردين على شاطئ إزمير، بعدما منع طرّاد يوناني قاربهم من بلوغ
شواطئ إيطاليا، فرمى البحارةُ اليونانيون الفارين البائسين على شاطئ أزمير التركي.
وشاطئ طرابلس وعكار مرشح لتزايد عدد الزوارق الذي تغادره في الظلام بفارين من جحيم لبنان.
نهار الجمعة 16 أيلول الجاري، تداولت وسائط التواصل الاجتماعي أفيشًا نشرته “الدولية للمعلومات”
يشبه أفيشات الأفلام السينمائية: كفُّ يدٍ تقبض على مسدس لامع إلى جانب رجلٍ
ببنطلون أسود. وعلى الجهة الأخرى من الأفيش عنوان الفيلم الوثائقي أو الواقعي:
بقعة دمٍ في وسطها عبارة: جرائم القتل. وتحت العنوان الدموي ثبتٌ إحصائي بتلك
الجرائم في شهر آب الماضي (14 جريمة)، وفي شهر أيلول الحالي: 16 جريمة حتى منتصفه، 6 قتلى
في طرابلس، 5 في البقاع، 3 في عكار، قتيل في جبيل، وقتيلة في بيروت.
والمناطق التي يرتفع فيها عدد الجرائم هي إياها التي يتكاثر الفرار منها في زوارق الغرق والموت.
وفيما كان الأفيش هذا ينتشر وتتداوله وسائط التواصل الإلكتروني، حدثت في النهار عينه اقتحامات
مصارف تباينت المعلومات والأخبار عن عددها. فتجاوزت 7 اقتحامات
صوَّرت بعضها المحطات التلفزيونية المحلية اللاهثة في تسابقها على التصوير الحي المباشر.
ونقلت عنها محطات عربية وعالمية بعض مشاهد الاقتحام. وهذه شملت مصارف
في مدنٍ ومناطق وبلدات عدة: شارع الحمراء البيروتي، حي الطريق الجديدة البيروتي أيضًا،
الرملة البيضاء على شاطئ بيروت، ضاحية بيروت الجنوبية، بلدة شحيم في إقليم الخروب،
بلدة الغازية الجنوبية قرب صيدا… وشاعت أخبار غير مؤكدة عن اقتحام مصرف في مدينة البترون الساحلية الشمالية.
لكن الأكيد أن حمّى اقتحام المصارف وتنقّلها نهار الجمعة، استلهمت اقتحامين
حدثا قبل يومين: ما إن انتشرت صور دخول سالي حافظ مصرفًا في محلة السوديكو
البيروتية نهار الأربعاء 14 أيلول، حاملة مسدسًا بلاستيكيًا وزجاجة تحوي مادة البنزين،
فهدّدت موظفي/ات المصرف بالمسدس وبعزمها على إحراق المكان ونفسها،
حتى أقدم مودع على اقتحام مصرف في مدينة عاليه الجبلية، للغاية نفسها:
استعادة وديعته بالدولار الطازج. وقبل نحو شهر كان مودع قد اقتحم مصرفًا في شارع الحمراء وحصل بالقوة على مبلغ من وديعته.
ونهار الجمعة 9 أيلول، أي قبل أسبوع من حمى اقتحام المصارف، قتل 4 أشخاص
في طرابلس، جراء محاولة سطوٍ على محل لبيع أجهزة الهاتف الخليوية.
وفيما أثارت الحادثة الطرابلسية ثارات أهلية في المدينة، صدرت عن عملية اقتحام
سالي المصرف بيانات تشير إلى أنها من “ثوار 17 تشرين” و “نفّذت مع مجموعة” عمليتها.
وظهرت لها صور وهي ترفع بيدها شارة النصر، وفي يدها الأخرى المسدس البلاستيكي.
والأرجح أن هذه الصورة الاستعراضية وشبه السينمائية كان لها دور في إلهام مقتحمي مصارف نهار الجمعة.
أما نهار الإثنين 12 أيلول فحدث شجار في محلة أبو سمرا الطرابلسية
أدى إلى سقوط قتيل. وتلا هذه الحادثة تبادل إطلاق نار نهار الأربعاء 14 أيلول،
بين رعاة وتجار مواشٍ من عائلتين في بلدة مشغرة في البقاع الغربي، وانجلى تبادل الرصاص عن 3 قتلى ومثلهم من الجرحى في حالٍ حرجة.
قاع اليأس والخلاص الفردي
كيف يمكن تفسير هذه الظواهر وتفشي عدواها في ديار اللبنانيين؟
لا شك في أن هذه الديار سائبة، ومستنقِعة في حال من الفوضى والبؤس والاهتراء
والخواء السياسي والثارات الأهلية الدفينة، ويتفشى فيها إحساس عام متناسل
ومتفاقم بأن أهل القوة والسلطان متربّعون مديدًا على عروشهم، ويتناحرون على
بقائهم فيها مهما عمّ الخراب وتكاثر ضحاياه الذين صاروا أحرارًا في ابتكار وسائل يرون أنها سبل خلاصهم الفردي المتاح، مهما بلغت مخاطره.
وفي مثل هذه الحال من اليأس، هل يلوح في الأفق حدث عام كبير،
غالبًا ما يظهرُ في حياة مجتمعات هوت بها أقدارها التاريخية العامة إلى ارتطامها بقيعان لا مخرج لها منها؟
إقرأ أيضاً: طرابلس: استغلال جرائم اجتماعية لـ”دعشنة” المدينة
لا أحد يستطيع التنبؤ بمثل هذا الحدث العام الكبير في لبنان، والأرجح أن
سبل الخلاص الفردي ومخاطراتها هي المرشحة للتوسّع والتفشّي أكثر
فأكثر بابتكاراتها البائسة المشرّعة حتى الآن على اقتحام المصارف، القتل، الفرار من البلاد.
لمزيد من المعلومات اضغط هنا