من جهنم إلى المجهول
تميزت السنة الماضية، أي العام 2022، بالعديد من الأحداث الداخلية المهمة والمؤثرة، إلا أن الحدث الرئيسي الذي طبعها ورسم سمتها الأساسية، هو ازدياد وتعمق حالة الفقر والبؤس في لبنان، وانزلاق اللبنانيين إلى مزيد من التدهور واليأس والقنوط، والانحدار أكثر فأكثر في عمق جهنم التي كانوا وعدوا فيها وانتقلوا إليها.
الانتخابات و”التوافقية”
الحدث السياسي الجوهري المؤثر والرئيسي، تمثل بالانتخابات النيابية، التي تمت للمرة الأولى في تاريخ لبنان وفق القانون النسبي المشوه والمخالف لروح الدستور وجوهر الميثاق الوطني، وذلك لافتقاده للعدالة ووحدة المعايير وصحة التمثيل. خصوصاً أن ركيزته الأساسية كانت أن الصوت التفضيلي في القضاء كان على الأساس المذهبي، مما فتح ويفتح الباب أمام نمو ظواهر الانغلاق الاجتماعي والمذهبي، والتطرف الديني، ويشجع على تصاعد النعرات الطائفية والمذهبية. وقد بينت الكثير من الأحداث مؤخراً حدة تنامي هذه الظواهر نتيجة اعتماد هذا القانون، الذي اعتبره البعض من الجماعات والأطراف إنصافاً لهم في التمثيل، لكنه في العمق شكل خطوة إلى الوراء على مستوى الانصهار الوطني أو الوحدة اللبنانية الحساسة المترجرجة والمرجوة.
قد يعتبر البعض أن القانون المذكور هو القانون الأكثر عدالة بالنسبة لهم، لناحية تأمين تمثيل فئات كانت قلقة ومهمشة في القانون الأكثري، على وجه الخصوص لدى المسيحيين. لكنه في العمق شكل خطوة متقدمة في تراجع الحد الأدنى من الوحدة الوطنية، بدليل بداية نمو ظواهر الانكفاء الذاتي الأمني السياسي والاجتماعي والمناطقي. ولا داعي للتكرار والتعداد، فالإشارات ظاهرة على الطرق.
المسلم به أن جوهر وجود لبنان قام ويقوم على قوة وفرادة ظاهرة العيش المشترك الإسلامي المسيحي، لكن التمعن في عمق نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة يبين وبسهولة تراجع هذا التوجه الأساسي لدى فئات واسعة في لبنان. ولهذه الأسباب تكمن خطورة الاستمرار في اعتماد هذا القانون المدمر لجوهر صيغة وتميز لبنان في وجوده.
الإشارة السلبية الأولى التي خرجت بها نتائج الانتخابات تمثلت، كما هو
ظاهر ومعروف، في تفتت الكتل الكبيرة والوازنة في المجلس النيابي،
وفي تشظي وتبعثر الأكثرية التي كانت موجودة بيد حزب الله ومحور الثامن من آذار. فلم يعد أي طرف سياسي حتى من خارج الاصطفافات الطائفية والسياسية، قادر على تشكيل أكثرية متماسكة تعيد صياغة وتحريك جوهر آلية النظام البرلماني الديمقراطي، القائم على الأكثرية الحاكمة والأقلية المعارضة. بل إن نتائج الانتخابات أحلت بقوة ومن دون تردد إلزامية اعتماد مبدأ التوافقية، كممر اجباري للوصول إلى أي قرار كان، وعلى وجه الخصوص في انتخابات الرئاسة الأولى.
في الأساس، فإن قسماً كبيراً من جوهر المشكلة في لبنان ما بعد العام
2005، يتمثل بنمو وتضخم سيطرة وتمدد ظاهرة الوصاية الأمنية والسياسية
في لبنان، التي ورثها حزب الله عن النظام السوري، والتي تقول بتعليق أو تجميد
العمل بآليات دستور ما بعد الطائف، لمصلحة التوافقية المحكومة بالسلاح الدقيق
وغير الدقيق، أي الكثيف والعالي الحساسية في الداخل، والمعتمد على الأهالي وبمرونة واسعة قرب الحدود الجنوبية. وبالتالي، فإن نتائج الانتخابات الأخيرة أتت “شحمة على فطيرة” التوافقية التي يريدها ويفضلها حزب الله، لتعطيل وتجميد آليات هذا النظام وجرّ بقية الأطراف إلى ما يريده هو، بحجة التوافق الإلزامي لانتفاء الطرق الأخرى الممكنة أو الواجب سلوكها، بفعل نتائج الانتخابات.
الترسيم
الحدث الجوهري الثاني الذي شهدته صفحات ونشرات الأخبار اللبنانية تمثل
في الاتفاق الأولي والمبين بين إيران الدولة الطموحة لمد سلطة الإمبراطورية
الفارسية في المنطقة والولايات المتحدة الأميركية اللاهثة خلف حفنة من الغاز
السائل وبأي ثمن، لمد قنوات التدفئة إلى أوروبا المرتجفة جراء نتائج الحرب
العالمية الثالثة، أي الحرب الروسية في أوكرانيا. وقد تمثل ذلك في اتفاق
الترسيم اللبناني الإسرائيلي على حدود المنطقة الاقتصادية المائية الجنوبية، والذي ستكشف السنوات المقبلة الكثير من أبعاده وأهدافه العميقة.
خروج “الجنرال”
أما الحدث الجلل الثالث الذي شهده لبنان في المنصرم من أيام السنة الفائتة، فتمثل من حيث المبدأ والشكل في محاولة إقفال باب جهنم عبر خروج الجنرال ميشال عون وجماعته العائلية والحزبية من القصر الجمهوري. هذا الخروج الذي قد يؤشر إلى نهاية ولاية لن تُنسى ولن تُنزع أيامها ووقائعها وويلاتها من ذاكرة اللبنانيين إلى أمد طويل.
الجاري أن العهد العوني ما يزال يقاوم نهايته، ويأبى التسليم أو السماح
بالانتقال من عهد إلى عهد. والصراع الدائر الآن في قسم كبير منه هو حول المستقبل والمقبل من الأيام.
للمزيد من الاخبار الرجاء الضغط هنا