طبع الليرات ليس سبب التضخّم… هذه أسبابه
ما هو حجم الليرات التي طبعها وضخّها مصرف لبنان في السوق منذ بداية الأزمة إلى اليوم؟ هل بات فائض الليرات اللبنانية يفوق حجم اقتصاد ما قبل الأزمة؟ وهل دخلنا فعلاً في نفق “التضخّم المفرط” كما يُقال، أم ما يزال “المركزي” ممسكاً بزمام الأمور؟
وظيفة العملة
قبل الإجاية عن هذه الأسئلة، نذكّر بوظائف العملة الوطنية، وهي ثلاث في أيّ دولة في العالم:
1- “وسيلة تبادل” (Medium of Exchange)، أي تيسير وتسهيل تبادل الخدمات والسلع داخل الحدود (وخارجها بالعملات الكبرى).
2- “مخزن القيمة” (Store of Value)، الذي يعني أنّ ادّخار الأوراق المالية هو ادّخار قيمة محدّدة من القدرة الشرائية.
3- “مقياس القيمة” (Measure of Value) لأنّ العملة وحدة قياس تمكِّن المواطنين من معرفة قيمة السلع والخدمات ومقارنة ارتفاع أسعارها أو انخفاضها.
فقدت الليرة اللبنانية من تلك الوظائف اثنتين (الثانية والثالثة)، وباتت تسير اليوم برجل واحدة نتيجة تبخّر ثقة المواطنين بعملة بلدهم وتحوّلهم إلى الدولار الأميركي (من استطاع إليه سبيلاً) لتخزين القيمة فيه أوّلاً، ولقياسها نسبةً إلى أسعار السلع ثانياً. وهكذا تبقى الوظيفة الأولى هي الوظيفة الوحيدة للّيرة اللبنانية لدى اللبنانيين اليوم، لكن بصعوبة، وتقتصر على تسهيل وتيسير الخدمات، إذ نشتري بها السلع الاستهلاكية اليومية.
فائض أم شحّ بالليرات؟
على الرغم من الكلام وحال “الرعب” من حجم الليرات اللبنانية التي يطبعها
مصرف لبنان ويضخّها في السوق، يعكس شحّ الليرات بين أيدي المواطنين صورة
مختلفة ربّما تكون منافية لهذا التهويل.
فكيف يوجد فائض من الليرات ونشكو دوماً من قلّة الليرات؟ وهل كمّيات الليرات
الموجودة في السوق اليوم لا تلبّي حجم الاقتصاد؟
ما يطبعه مصرف لبنان ويضخّه في السوق يدخل في صلب عملية سدّ الفرق بين
الرقم الرسمي السابق لسعر الدولار (1,500 ليرة) وسعره المتصاعد بوتيرة متواصلة
في السوق (42 ألف ليرة اليوم).
يُمكن اعتبار أنّ هذا الفرق هو “اقتصاد الظلّ”، الذي ساعد على تحاشي الانهيار الكامل،
واستطاع تمويل النشاط الاقتصادي منذ بداية الأزمة حتى اليوم. و”اقتصاد الظلّ” هو
الاقتصاد الخفيّ غير المصرَّح عنه، وذاك المصرَّح عنه جزئياً، نتيجة الفرق بين سعر الدولار
الرسمي (1,500 ليرة) وسعره في السوق (42 ألف ليرة). وقد تسبّب هذا الفرق بخلق صورة مشوّهة لنسبة نموّ إيجابية، تحدّث عنها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أخيراً، وقبله حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
المركزيّ يمتصّ الدولارات
إذا دخلنا في متاهة الأرقام، فقد تخبرنا بما هو أكثر من ذلك أيضاً:
– يُقدّر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي انكماش الاقتصاد اللبناني منذ بداية الأزمة إلى اليوم من نحو 54 مليار دولار إلى حدود 20 مليار دولار. أمّا الكتلة النقدية الموجودة في التداول (M1) حتى 15 كانون الأول الماضي، حسبما تُظهر أرقام مصرف لبنان، فتقدَّر بقرابة 90 تريليون ليرة، أي ما يعادل نحو 2 مليار دولار فقط، على سعر السوق السائد اليوم 44 ألفاً. وهذا معناه أنّ الليرات اللبنانية تغطّي 10% من حجم الاقتصاد، في حين أنّ الـ90% الباقية مغطّاة بالدولار الكاش “الفريش” ما دامت المصارف معطّلة ولا تنفّذ العمليات التجارية إلا بعد
إيداعها أموالاً “نقديّة”. قد يقول قائلٌ: “ليس ضرورياً أن يغطّي حجم الليرات كامل الدورة الاقتصادية”. هذا صحيح، لكن فلنعتمد تلك الفرضية ولنقارنها مع ما قبل الأزمة: قبل الأزمة وبعدها كنّا، وما زلنا طبعاً،
نعيش في ظلّ اقتصاد “مدولر”، أي كانت عملة الدولار هي العملة الثانية بعد الليرة.
في بداية عام 2019 كان حجم الاقتصاد اللبناني يُقدّر بـ54 مليار دولار، فيما الكتلة النقدية
في حينه كانت 10 تريليونات ليرة، أي نحو 6.6 مليارات دولار على سعر الصرف الرسمي
1,500 ليرة، أو ما يعادل 12% من حجم الاقتصاد (كذلك في عامَيْ 2017 و2018). وهذا
يعني أنّنا ما زلنا قريبين جدّاً من تلك النسبة، بل إنّ الكتلة قبل الأزمة كانت أكبر ممّا كانت عليه بعدها.
– أكثر من ذلك، فإنّ هذه الكتلة النقدية بالليرات اللبنانية (M1) المقدّرة بـ90 تريليون ليرة،
مغطّاة بنسبة تفوق نحو 5 أضعاف العملات الأجنبية التي يحتفظ بها مصرف لبنان، والتي
تقدِّرها أرقامه بـ10 مليارات دولار (حجم احتياطاته بالدولار الأميركي أقلّه حسبما يقول المركزي).
– أمّا إذا لجأنا إلى الأسلوب التقليدي في تقويم العملات الوطنية لناحية تغطية قيمتها بالذهب،
فنكتشف أنّ موجودات مصرف لبنان من ذاك المعدن النفيس تفوق الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية أيضاً بما يصل إلى نحو 88%، أي ما يعادل 5 أضعاف تقريباً أو أقلّ بقليل.
ما هو سبب ارتفاع الأسعار؟
تطرح هذه الحقائق الأسئلة التالية: إذا كانت كلّ هذه الأرقام تؤكّد عكس ما نسمعه ونراه، فمن أين يأتي التضخّم؟ وهل هو مُفرط بالفعل؟ ولماذا هذا الارتفاع المخيف بأسعار السلع والمؤشّرات العائدة لها؟
الجواب هو أنّ التسعير العشوائي مع كلّ تقلّب بسعر صرف الدولار، والتسيّب الذي يسود
أجهزة الدولة الرقابية، جعلا كلّ تاجر “فاتح على حسابه”: يرفع أسعار سلعه حينما يرتفع سعر الصرف، ولا يخفضها حينما ينخفض، بل يرفعها أكثر وأكثر إن عاد سعر الصرف إلى الارتفاع، وحتى لو لم يكن هذا الارتفاع أعلى من الذي سبقه!
التضخّم سببه أيضاً الجنون في ارتفاع سعر الصرف، الذي يساهم فيه مصرف لبنان نتيجة عطشه (وعطش الدولة) إلى الدولارات. ما انفكّ تدخّل “المركزي” في السوق لصالحه ولصالح الدولة يدفع أسعار السلع صعوداً نتيجة ارتفاع سعر الصرف بسبب غياب السياسات الناظمة وتخبّط السلطة السياسية وتخلّيها عن مسؤوليّاتها وتحميلها لمصرف لبنان الذي يدير اللعبة بما يخدم مصالحه ويزيد من احتياطاته بأيّ طريقة، وليس وفق ما يخدم مصلحة الاقتصاد الوطني أو المواطن اللبناني.
إذاً، نعم ثمّة تضخّم بلا شكّ. لكنّ هذا التضخّم ليس “ظاهرة نقدية” (Over Money Supply) بقدر ما هو نتيجة الفوضى المستشرية في تسعير السلع والخدمات بلا أيّ رقابة من قبل السلطات المختصّة في الدولة، وغياب الرقابة الذاتية من قبل مكوّنات القطاع الخاص، سواء النقابات أو الاتحادات أو غيرها. هذا على الصعيد الداخلي اللبناني، وأمّا العوامل الأخرى التي تسبّبت بهذا الارتفاع الحادّ والجنوني في الأسعار، فهي الحرب الروسية – الأوكرانية وجائحة كورونا وتداعياتهما على التجارة العالمية.
عماد الشدياق – أساس ميدياads
للمزيد من الاخبار الرجاء الضغط هنا