٤٠ ثانية “توراتية” من فجر بيروت

٤٠ ثانية “توراتية” من فجر بيروت

الثالثة و20 دقيقة فجراً، في ذروة الظلام، لا كهرباء. الريح عاتية تعصف كما يُكتب عنها في الروايات القديمة. الرعود العظيمة يسبقها لمعان البروق التي تمزق العتمة السماوية، وأمطار

لا تتوقف. برد في ذروته القارصة.. والناس نيام، أسمع أنفاسي، والأرق يستبد بي، ومواء أليم لقطّة الشارع يفاقم أرقي.

السرير يرتجف. اللوحة تطقطق على الحائط. الخزانة الخشبية تهتز أيضاً.

غرفة النوم كلها تتحرك. أخال أني أهلوس في سواد الظلام الدامس. ربما اختلال في

الذهن واضطراب التوازن من قلة النوم. لكن البناية كلها تتحرك الآن. الثواني

العشر الأولى انقضت بلا تصديق. انتفض موقظاً زوجتي: هزة. هزة. قفي معي تحت افريز الباب.

ثلاثون ثانية تقريباً نقف منتظرين بعجز نهائي وأخير الموت الآتي من نزول

سقوف ستة طوابق بأكملها فوقنا. نقف باستسلام كلي لتخيلاتنا في كيف ستسحقنا

هذه الكتل الاسمنتية الجبارة. لم يمر في رأسي شريط حياتي. ولا أي ذكريات. لم أفكّر بأي شيء،

ولا حتى بابني الوحيد. خدر واستنفار حواس مستجيباً لنبض الزلزال. فقط فكرتان تتصارعان:

إنكار متعجرف لفكرة النهاية بهذه الطريقة، وخضوع شديد الهدوء.

عبَر الزلزال وانتهى. لكن الرعب الفعلي بدأ الآن، عندما حلّ الهدوء وابتدأ التفكير.

ماذا حدث؟ هل نجونا حقاً؟ أي قوة هذه التي باستطاعتها إبادتنا بثوانٍ؟

أي نوع من الموت العميم هذا الذي لا سبيل لتجنبه؟ كيف بدونا ضعفاء

وعاجزين إلى هذا الحد؟ كيف أن جهودنا البشرية منذ آلاف السنين للسيطرة

على الطبيعة وعلى مصائرنا تتحول في لحظة إلى هباء؟ وهذا الذي يسمى “الموت” ألهذا الحد قريب ولصيق بنا ويلتذ بفضح هشاشتنا المطلقة؟


مع السيجارة الأولى بعد الزلزال، تذكرت حين كانت تطاردنا القذائف، السيارات المفخخة،

رصاصات القناصين، الصواريخ العشوائية، الغارات الجوية العنيفة، الاشتباكات الدموية

المباغتة التي كانت تلاحق يومياتنا.. كل لحظات الخطر، وذاك الانفجار العظيم في

المرفأ الذي رأيته أمامي من خلف الواجهة الزجاجية لمكتبي وكاد عصفه يطيح بي

. تذكرت حين انقلبت بي السيارة ذات ليلة عصيبة وكدت أفارق الحياة على نحو مجاني.

كل هذه الذكريات المشوشة عن “ملاعبة” الموت، لا تقارن بثواني الزلزال. فما سبق موضعيٌ ومُدرك ومحدد المصدر، مخيف طبعاً لكنه على الأقل مرئي ومحسوس ونسبي. بل ويمكن “مواجهته” أو تداركه.

أما هذا الآتي من باطن الأرض، الصامت والشامل بلا حدود والمطلق السلطة،

والأعمى بلا تمييز، بلا رائحة ولا لون ولا صوت، الصارم والعادل والعبثي تماماً،

فلا يمكن فهمه ولا استيعابه ولا مجال للتحايل عليه. إنه الموت بكامل جبروته وعدميته.

موت بلا أي غاية. بريء إلى أقصى حدّ، وبلا أي إرادة أو مسؤولية. إنه موت يقع خارج الخير والشر. موت عار كحقيقة وحيدة.   


مع السيجارة الثانية، يبدأ ذاك الفضول عبر الهاتف والانترنت، وتدفق الأخبار والصور الأولى. بلدان بأكملها وشعوب برمتها تحت وطأة الصدمة والفاجعة الشاملة. عشرات آلاف الكيلومترات المربعة ارتجفت بسهولها وجبالها وقراها ومدنها، ملايين البشر هزّهم الرعب والذهول. فجأة انتفت كل “إنجازات” البشر، الحدود والبنى التحتية والطرق والجسور والعمارات الشاهقة والمنشآت والقلاع والبيوت والهويات واللغات والأفكار والثروات والمقتنيات والأديان والمعتقدات. كلها قابلة للاندثار بلا أثر بلحظات خاطفة وماحقة.

بعد تلك الثواني الطويلة والبطيئة التي قضيناها واقفين تحت إفريز الباب، مستسلمين للقدر، ندرك على نحو مشؤوم أن لا قيمة للدولار أو الذهب الذي بحوزتنا، أو السيارات التي نقتنيها، أو المنزل الذي شيدناه أو امتلكناه، لا قيمة لهذه الأغراض العزيزة التي نتمسك بها، ولا شيء يقدر بثمن أو بأهمية. لا معنى لعداواتنا وصراعاتنا ومكاسبنا وخسائرنا وترهات سياساتنا وتكنولوجياتنا.. هباء وحسب.

أقرأ بغتة على شاشة هاتفي: الزلازل تتبعها هزات ارتدادية. أطلب من زوجتي أن تحمل ملف الأوراق الرسمية والشخصية، والأموال. علينا الخروج فوراً. الجيران بدأوا بالنزول أيضاً مثلنا بثياب النوم. لا ندري إن كانت البنايات ستتحمل بعد أي اهتزاز ولو طفيف.

في تلك اللحظة، قبل الخروج، جاءت الهزة الارتدادية. هذه المرة لا ذهول ولا خدر بل الخوف المعلن، والغضب أيضاً، والرغبة بالمقاومة. خوف ممزوج بإرادة تحدي الزلزال نفسه ومغالبة الموت: هذه المرة لن تباغتني أيها الغادر الجبان.

نهيم في السيارة ومثلنا أيضاً الآلاف، وكذلك عشرات الآلاف الذي خرجوا يمشون أو يتجمعون في الخلاء، في هذا الجو العاصف. الطبيعة كلها من السماء ومن تحت الأرض كساعة توراتية لعينة تحمل أهوالها وتطاردنا.

مع ضوء الصباح، نتعانق زوجتي وأنا. ليس ذاك العناق الروتيني التلقائي. عناق لا يوصف. بكامل الروح والجسد، بحرارة الحياة والذكريات، بنبض القلب والدم والرضى العميق لنجاتنا. العناق الذي يمنح عمرنا الباقي حباً إضافياً.

ذاك العناق كان القيمة الوحيد لما نمتلكه. هذا ما قالته زوجتي.

المصدر: المدن

لمزيد من المعلومات اضغط هنا

Exit mobile version