هل بدأت فرنسا “إستدارتها” الرئاسية؟
يأخذ الصراع المُستَجدّ بين المنظومة وفرنسا “إيمانويل ماكرون”، أشكالاً متعددة، تتجاوز ما هو سياسي إلى الإقتصاد والأمن وما هو أبعد من ذلك، مع الإشارة إلى تقاطعات تحصل من حين إلى آخر.
عملياً، إتخذت فرنسا قراراً بتجفيف منابع تمويل الطبقة السياسية. التوجّه الفرنسي نابع من توجّه دولي أساساً. من هنا تأتي الملاحقات الجارية أخيراً، سواء من خلال القضاء الفرنسي أو العقوبات الأميركية. لخدمة هذه النظرية نشطت باريس وتنشط على عدة مستويات.
ما تحمله شركة “توتال” في ما له صلة بأعمال التنقيب عن الغاز جنوباً، يبدو واضحاً لجهة عزل أي تأثيرٍ سياسي عن نشاطها، وتعزّز موقفها برفض التعاون مع أي فصيل. قبل ذلك، كانت باريس قد أدخلت مؤسستها القضائية في حمى الأزمة اللبنانية وهو ما أسهم في حضورها فرنسا ورفع ضغوطاتها، فأتاحت للقضاة الفرنسيين الإنصراف إلى التحقيق في “شوائب مالية” أهمّها ما يقف خلفها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
في الداخل اللبناني، ثمة تسليم بشفافية التحقيقات التي تجريها أوروبا (بخاصة فرنسا) مقارنةً مع تلك التي تعتمدها واشنطن وتبحث عن “تسييسها” دائماً. في هذا الوقت، يبقى ان استدعاء سلامة إلى التحقيقات في أيار المقبل وقبله “إحتجاز” مالك ورئيس مجلس إدارة بنك الموارد مروان خير الدين في باريس من قبل السلطات الفرنسية لا يُعدّ تفصيلاً ابداً.
في المقابل، تسعى المنظومة التقليدية إلى المواجهة بما توفّر لديها. يُدرك القائمون عليها، أن فرنسا تبحث عن “متنفس إقتصادي” في حمى الخراب اللبناني كي تتسلّل منه نحو فرض نفسها لاعباً مركزياً على نحوٍ مقرّر. لذلك تجهد في تأمين مكتسبات في حاكمية المركزي ومرفأ بيروت و “المطار” وأخواتهما، وشركة طيران الشرق الأوسط ومناقصة البريد… الخ. من هنا، تُجيد المنظومة اللعب في ما يزعج فرنسا.
عملياً، إيقاف التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت وإبقاء الوضع هناك قائماً على ما هو عليه، يحتوي ردة فعل في مواجهة فرنسا بالدرجة الأولى، وهذا السياق لا يمكن إبعاده عما جرى في مناقصة البريد، والقرار المتّخذ من قبل وزير الإتصالات في حكومة تصريف الأعمال جوني قرم، إعادتها بصرف النظر عن الأسباب.
ويُنظر في هذه المسألة إلى الأدوار المخفية التي يؤديها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي “من خلف الكواليس”، مستفيداً من علاقته برئيس هيئة الشراء العام جان العلية، وبالتالي يصبح فضّ فوز CMA CGM بصفتها مالكة للشركات الفائزة (ميريت إنفست ش.م.ل و كوليه بريفف باريس) رسالةً إلى فرنسا، ربما على إخراج ميقاتي من صفته شريكاً سياسياً وإقتصادياً لباريس واستبداله بآخرين (نواف سلام أو غيره). وقد يكون ميقاتي استشعرَ رغبات في ملاحقته بقضايا قضائية على شاكلة ما يجري مع سلامة أو غيره.
من جهة أخرى تبدو فرنسا “رئاسياً” كأنها فرملت تحرّكها أو تحاول إدخال تعديلات على توجهاتها. مسألة المقايضة القائمة على فكرة سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية ونوّاف سلام رئيساً للحكومة ثبت سقوطها. الجديد في الموضوع، إبداء سلام تحفظات عليها، ما يعني أن الأخير تلقى إشارات من شركاء خارجيين (أو عرباً) معترضين على الفكرة، ففضّل أن يحيد عنها.
حتى الآن، تبدو الأمور ذاهبة في اتجاه بلورة فكرة فرنسية جديدة، لذلك تنشط على خط استطلاع رأي القوى المؤثرة داخلياً. مثل هذه الأجواء تسلّلت إلى بعض الصالونات السياسية خلال الأيام الماضية. فالحراك الفرنسي الجديد آخذ بالتوسّع، ويُرجّح أن تدعو الإدارة الفرنسية شخصيات مختلفة لزيارة باريس للإستفادة من مروحة آراء.
حتى الآن، تأتي الزيارات (ومنها زيارة رئيس حزب الكتائب سامي الجميل) تحت سقف التشاور. في العمق تبدو فرنسا كمن يبحث عن إعادة تكوين “مبادرتها” مع ما يتخلل ذلك من محاولة لتجميع “الحالة المسيحية سياسياً” باتجاه التوافق على عناوين مشتركة. رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، المصنّف فرنسياً في الوقت الراهن “كمشاغب” في مواجهة السياسات الفرنسية ومتحمّس إلى المقاربة أو الرؤية السعودية للأزمة، كان لافتاً أن تخصّه السفيرة آن غريو بزيارة في معراب. في مطلق الأحوال لا تأتي هذه الحركة من قبيل الإستشارة، إنما للإستماع إلى ما لديه من مقاربات و اعتراضات على السياسات الفرنسية بعدما أضحى في مواجهتها بشكلٍ واضح أزعج باريس.
وتبدو المحاولة ناتجة عن “إستدارة فرنسية” في مقاربة مسألة جعجع تحديداً، إذ كان السائد أخيراً تجاهله. إلى ذلك قد تكون زيارة جعجع تعويضاً عن عدم قدرته على زيارتها. إلى ذلك تفيد المعلومات أن فرنسا ذاهبة حالياً في اتجاه محاولة “جسر الهوة” مع القوى المسيحية، ومحاولة لملمة العلاقة.
ليبانون ديبايت
لمسشاهدة المزيد اضغط هنا